تأخر هذا المقال لأسبوعين بسبب الصخب الدائر هنا من أزمة الأزمات التي تتفاقم في غزة امتداداً لاجتماع المجلس المركزي وخطاب الرئيس ومأزق الخيارات الفلسطينية في ظل الراهن والهجوم الأميركي على الفلسطينيين و"الأونروا"، كل تلك لم يترك متسعاً لأي نوع من أنواع الفانتازيا التي رافقت نشر كتاب «النار والغضب» الذي أصدره الصحافي الأميركي «مايكل وولف» يسرد فيه تفاصيل أحداث من بيت رئيس وصل إلى الحكم بالصدفة ولم يكن يفكر بالفوز أصلاً، فقد بكت زوجته عند اعلان النتيجة خوفاً، ليضطر الرئيس الى طمأنتها ومواساتها للتخفيف من وطأة الفوز.
قبل موعده بأربعة أيام تم توزيع الكتاب على المكتبات مساء يوم الخميس، قبل حوالي أسبوعين، والمدهش أنه في العاشرة من صباح يوم الجمعة، كانت النسخ قد نفدت من السوق وجرى الحديث عن ربع مليون نسخة مطبوعة في الساعتين الأوليين لتوزيع الكتاب الذي حطم أرقاماً قياساً حسب موقع «أمازون» لبيع الكتب.
فقد تلقف الشعب الأميركي أسرار البيت وجرى الاتفاق منذ ثلاثة أيام على تحويل الكتاب إلى عمل تلفزيوني بين المؤلف ومؤسسة تلفزيونية كبرى.
ليس المهم هنا ما تناوله الكتاب من أسرار يرقى بعضها إلى مستوى الفضائح بل هذه السرعة القياسية في البيع حد نفاد الكميات خلال ساعات.
فقد انتشر كتاب النار والغضب انتشار النار في الهشيم وقد يشكل ذلك ظاهرة وخصوصاً في ظل تراجع الصحافة الورقية والكتب المطبوعة فللكتاب قصة أخرى ينبغي روايتها من جانب آخر لأنه يستجيب لمتطلبات صحافة إيقاع العصر والإثارة أكثر مما يستجيب لأسرار السياسة الذي اعتاد على كتابتها مسؤولون غادروا مواقع الحكم.
لغز الانتشار ربما كان قد قدم الأستاذ المرحوم محمد حسنين هيكل إجابة عنه عندما كان الكونغرس مشغولا يبحث في الملابس الداخلية لرئيس قبل عقدين وهو الرئيس السابق بيل كلينتون زوج المرشحة التي نافست ترامب هيلاري كلينتون والذي كان على علاقة جنسية مع متدربة جميلة في البيت الأبيض اسمها مونيكا لوينسكي وتلك العلاقة استدعت ملاحقته من قبل القاضي الشهير «كينيث ستار».
حينها كتب هيكل أنه حضر دورة صحافية في كلية الصحافة في جامعة «كولومبيا» تركزت حول موضوع الخبر الصحافي وعناصره، ووقف أحد الخبراء يعدد أمام سامعيه ما اعتبره ضرورياً للخبر المثالي في رأيه قائلاً، «إن الخبر المثير هو ذلك الذي يحتوي على خمسة عناصر هي: شيء من الملكية - وشيء من الدين - وشيء من الجنس - وشيء من الجريمة - وشيء من الغموض» ثم قال الأستاذ المحاضر أنه توصل إلى صيغة خبر يستطيع أن يقدمها باعتبارها نموذجاً مختصراً للخبر المثالي الأقدر على الإثارة على النحو التالي «إن الملكة صاحت: يا الهي، إن الأميرة حامل، فمن الذي فعلها؟».
وهكذا شرح الأستاذ الخبر قائلاً «حين بدأ الخبر بذكر الملكة فانه استدعى شيئاً من الملكية وحين نادى «يا الهي» فانه استدعى شيئاً من الدين وحين قرر على لسان الملكة أن ابنتها حامل فانه استدعى شيئا من الجنس وأخيراً فانه حين تساءل «من فعلها؟» استدعى شيئاً من السر والغموض والجريمة أيضاً.
في كليات الصحافة الأكاديمية الرصينة فإن عناصر الخبر هي أول ما يتعلمه طلاب التخصص والذي يحتوي على خمسة عناصر تجيب عن أسئلة لابد منها لاكتمال الخبر وهي «ماذا - ومن - ومتى - وكيف - وأين» وان غياب أي من هذه العناصر يمس بواحد من شروط الخبر ولكن مدارس الصحف الصفراء «التابلويد» وصحف الإثارة لديها مفاهيمها ومدرستها وهي بالمناسبة تحظى بقراءات هي الأعلى قياساً بالأحداث الكونية الأخرى لأنها كما قال المحاضر في جامعة كولومبيا تحظى بخبر مكتمل الأركان للإثارة.
ولنفحص مدى مثالية الكتاب الذي أصدره مايكل وولف عن الرئيس المثير للجدل ففي الكتاب ما يلبي تماماً مدرسة الإثارة في الصحافة. فعندما يكتب عن الرئيس الذي يحكم هو وابنته وزوج ابنته فإنه يستدعي حكماً عائلياً ما يشبه الملكية حكم الأسرة وهو لم يكن في الولايات المتحدة الأميركية سابقاً وهناك شيء من الدين في تلك الأسرة فان الأميرة ايفانكا تحولت إلى الدين اليهودي بعد زواجها من رجل يهودي هو جاريد كوشنير، أما الكتاب بمجمله فانه يبحث في الغموض الذي يكتنف إدارة الرئيس الطارئ على السياسة، كيف يقود الولايات المتحدة وكيف يتخذ القرارات، أما الجنس وهو الذي يرافق العائلة الذي يلاحق الرئيس العاشق للنساء والذي اعتاد على لمس أجسادهن والتحرش بهن وكذلك زوجته ميلانا التي كانت تعمل في شيء من هذا وما تبرزه مفاتن الأميرة الجميلة ايفانكا والتي أحدثت لوثة لدى بعض العرب.
ولكن في سياق ذلك وبعيداً عن الفانتازيا والإثارة ومدارس الصحافة فإن الكتاب حمل بعض الأسرار التي لا ينبغي التعجيل بنشرها في العام الأول للرئيس منها القيام بانقلاب لتعيين البعض في دولهم تمهيداً لعمل سياسي في صالح الولايات المتحدة، فإن السؤال كيف تسمح دوائر الأمن في الولايات المتحدة بنشر هذه التفاصيل وغيرها وهو ما يطرح سؤال دور المؤسسة الأميركية في السماح بنشر هذا الكتاب.
أغلب الظن أن الكتاب لم يكن ينشر بعيداً عن رغبة تلك المؤسسة أو ما يمكن تسميتها الدولة الأميركية العميقة وخصوصاً أن لبعض القرارات المتهورة الذي اتخذها الرئيس مثل قرار القدس عاصمة لإسرائيل اصطدم إلى حد ما بمعارضة الدولة الأميركية، وزارة الخارجية، وزارة الدفاع، وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية وهنا نتحدث عن القوى الفاعلة في الدولة الأميركية.
هل يعني ذلك أن صدور الكتاب يأتي تعبيرا عن رغبة الدولة بتقصير حكم الرئيس المندفع بلا حساب؟ يمكن قراءة الأمر من هذه الزاوية وخصوصاً أن الكتاب فتح على الرئيس دواعي إجراء فحوصات نفسية لقياس مدى اتزانه وكذلك بدء مفاوضات بين محامي الرئيس والمدعي العام الأميركي لشكل التحقيق الذي سيكون مع الرئيس عندما يقرر، ربما فعلتها المؤسسة لأن في إدارة الرئيس ما يحطم كل الجهود التي تبذلها الولايات المتحدة لتقديم نفسها للعالم لأن الرئيس جعلها أكثر معزولة في مجلس الأمن والأمم المتحدة وتسير ضدها تظاهرات في كثير من العواصم وهذا إضرار بالمصالح العليا للولايات المتحدة نفسها هي كدولة أكثر ذكاء من أن تقبل باستمرار ذلك ...!!!