هذه المرة الأمر مختلف، ولم يترك متسعاً للمناورة بعد سلسلة القرارات الأميركية الإسرائيلية التي ضيقت الهامش تماماً على الفلسطينيين، وأصدرت حكم الإعدام على عملية التسوية التي بدأت منذ ربع قرن في البيت الأبيض.
فقد ظلت العلاقة الفلسطينية الإسرائيلية تتدرج منذ ذلك التاريخ، فوصلت لمحطة معاكسة تماماً للبدايات. إذن نحن أمام الحقيقة التي لا يمكن إلا التعامل مع وقائعها هذه المرة بشكل يختلف عن السابق.
ينعقد المجلس المركزي في ظروف هي الأصعب من جميع الاتجاهات؛ إذ نحن أمام رئيس أميركي وطاقم أكثر تنكراً للحقوق الفلسطينية من نتنياهو نفسه، ممثلاً بثلاثي من داعمي المشروع الاستيطاني والدولة اليهودية، ولا يجب أن نستهين بقوة وقدرة وسطوة الإدارة الأميركية، ونحن أمام مجتمع دولي روّض نفسه على إطلاق يد الولايات المتحدة في ملف الصراع دون تدخل فعلي رغم كل ما ساد من انحرافها وجرفها عن مسارها الحقيقي. نحن أمام حكومة إسرائيلية هي الأكثر تطرفاً ووضوحاً في تاريخ إسرائيل، قام حزبها الحاكم بالتصويت على ضم الأراضي المفترضة للدولة الفلسطينية لإسرائيل وسريان القانون الإسرائيلي عليها.
نحن أمام مناخ عربي هوى سقفه السياسي والقومي إلى هاوية لم يسبق لها مثيل؛ حيث أحدث الاضطراب الحاصل منذ ست سنوات في المحيط إلى تبدل الأولويات أمام محاولات وقف انهيار الدول والصراع المذهبي وخلافات بين الدول العربية، وأنتج تقارباً مع إسرائيل.. دول تتآمر ضد بعضها ليل نهار وتطحن بعضها، ما أدى إلى تآكل حاد في الموقف العربي والقدرة العربية أفضى إلى هذا الانهيار الذي نشهده.
نحن أمام وضع داخلي فلسطيني هو الأضعف منذ انطلاقة شعلة الكفاح، فمنظمة التحرير الفلسطينية أشبه بالرجل المريض الذي تعطلت أجهزته البيولوجية، دون قدرة على التحرك في حالة عجز غير مسبوقة بلا أذرع أو أقدام، كانت تمثلها الاتحادات الشعبية الفاعلة والمنتشرة في بقاع الأرض كرافعة لتنفيذ برنامج المنظمة، أما السلطة الوطنية فمشلولة منذ أكثر من عقد، حيث آخر انتخابات جرت، رئاسية أو تشريعية، ومجلس تشريعي معطل وكل شيء فيها تقادم.
نحن أمام انكشاف غير مسبوق في أداء الحركتين الكبيرتين «فتح» و»حماس»؛ حيث الإخفاق في تحقيق أي تقدم على المستوى الوطني، ويزيد الأمر انكشافاً قطاع غزة؛ حيث يضاف الإنساني إلى الإخفاق الوطني، ومع الفشل في إنهاء الانقسام وبقاء غزة خارج غلاف السلطة الحقيقي، هذا كله وسط أجواء فلسطينية هبطت حواراتها الوطنية في ظل أخطر التحديات إلى مستوى وظائف وجمارك ورواتب، وحتى هذه التحديات يتبدى العجز الكبير عن القدرة على إيجاد حلول لها.
ينعقد المجلس المركزي في ظل تآكل الشرعيات وغياب المؤسسة، والذي أحدث قدراً كبيراً من تآكل الإرادة الوطنية لدى المواطن، لنعجز عن إطلاق انتفاضة حقيقية كان يجب أن تمهد الأرض بفعلها الميداني لاتخاذ قرارات كفاحية حين ينعقد المجلس المركزي متكئاً على إرادة شعبية تقاتل في الشوارع والساحات والميادين، وتستولي على الإعلام الكوني، وتعيد الاعتبار للقضية الوطنية، كما في الانتفاضة الأولى التي شكّلت رافعة لقرارات المجلس الوطني عام 88، والذي صدر عنه إعلان الاستقلال وإقامة الدولة.
ينعقد المجلس المركزي، بعد سبع سنوات من الاتفاق على إعادة بناء المنظمة، بعد أن تقرر ضم حركتي «حماس» و»الجهاد الإسلامي»، وتم تشكيل إطار قيادي موحد للمنظمة خلال اتفاق 2011، لكنه لم يجتمع، وبقينا نتراجع. جميعنا شهود هذه المرحلة الأصعب في تاريخ شعبنا، إلى أن اصطدمنا بكل هذا بيننا وحولنا وأمامنا من استعصاءات شديدة التعقيد وأمام قرارات مصيرية كان يجب أن يشارك الجميع في اتخاذها دون التهرب من مسؤولية اللحظة التاريخية، بدلاً من التذرع بصغرى القضايا أمام محطة تاريخية وظرف غاشم بهذا الحجم.
الظروف الذاتية فلسطينياً والموضوعية عربياً ودولياً ليست ظروفاً مساندة، وهذا ربما يجعل من الخطأ رفع سقف التوقعات من المجلس المركزي، الذي جرى تضخيم هذه الدورة باعتباره قادراً على اجتراح حل بفتح أفق جديد أمام انحسار الخيارات ومحدوديتها.
وهنا مع أهمية عقد اجتماع المجلس المركزي، يجب ألا يقع الفلسطينيون تحت وهْم القدرة على الذهاب بعيداً، ليس فقط بسبب كل ما ذكر، لكن أيضاً بسبب تعقيدات الواقع الذي أشرفت إسرائيل على هندسته بدهاء شديد وجعل قدرتنا على الإفلات منه بحاجة إلى ما يشبه المعجزة.
إن أهم ما سيصدر عن المجلس المركزي هو إعلان فلسطين دولة تحت الاحتلال بحدودها المعترف بها دولياً، هذا مهم ولكن علينا تذكر أن الأمم المتحدة أعطتنا هذا الامتياز وكان يجب أن يتم تهيئة الحالة الفلسطينية بما يتناسب مع القرار الأممي؛ لأن القانون الدولي يعلو على القانون المحلي، ولكننا لم نفعل شيئاً وبقينا سلطة وطنية عندما قال لنا العالم: «أنتم دولة». لم نصدق ولم نتعاط معه.
إن إعلان دولة يعني انقلاباً على السائد في العلاقة مع إسرائيل، أي نهاية السلطة باتفاقياتها كافة، فلا يجوز إعلان الدولة والالتزام بالاتفاقيات، فكيف سيجدون مخرجاً؟ والأهم هو تغيير تسمية القيادة الفلسطينية والحكومة والبرلمان ليصبح برلمان الدولة، وهذا يتطلب انتخابات عاجلة وفورية لبرلمان الدولة ورئيس الدولة، وتغيير المخاطبات الرسمية حتى مع إسرائيل التي سترفض تسلّم هذه المكاتبات، لكن وفي كل الظروف هذه فرصة لوضع العالم أمام استحقاق جديد، وهو الذي اعترف بالدولة عليه التعاطي معها كذلك، وتغيير وضع السفارات وفقاً للقانون، لكن إذا أعلنت التسمية دون تنفيذ استحقاقاتها على مستوى المؤسسة وإسرائيل فإن ذلك لن يكون أبعد من قرار الأمم المتحدة عام 2012، وبالتالي لن يكون أبعد من مناورة في حين انتهى زمن المناورات مع إسرائيل التي تتخذ إجراءات على الأرض تسدل الستار على حل الدولتين ومناوراتها..!