لا أعرفهما، ركبا في سيارة أجرة، كنتُ أركبها في رحلة قصيرة داخل غزة.
قال الأول لصديقه: تمنيتُ أن أكون مِن ذوي الاحتياجات الخاصة، لأحصل على ما يسدُّ رمق ابنيَّ الاثنين، فذوو الاحتياجات الخاصة، يتلقون مخصصاتٍ شهرية ويجودُ عليهم أهلُ الخير، ما فائدةُ سلامة الجسم، في مجتمع مشلول؟!
وما فائدة الشهادة التي أحملها؟ وما فائدةُ خبرتي الطويلة في التسويق، في بلدٍ ماتتْ فيه الأسواق؟!
كنتُ أرى ابتسامة الرضا ترتسم على وجه سائقِ سيارة الأجرة، وهو ينظر إليه في المرآة الداخلية.
شعرتُ بأن السائقَ وجدَ ضالَّته في حديث الشاب، عندما قال:
كلُّنا اليومَ مِن ذوي الاحتياجات الخاصة، نحتاج إلى المساعدة! بالأمس لم أتمكن من دفع تكاليف إصلاح سيارتي هذه، فرهنتُ هويتي لورشة الإصلاح، لأتمكن من تسديد المبلغ الباقي، رجالُ أحزابنا يختلفون، وينقسمون، ونحن ندفعُ الثمن!!
يبدو أن الشاب الثاني لاحظ اهتمامي بالحديث، فقرر أن يشاركهما، ابتسم وهو يضع يده على كتفي ويقول:
اعذرني يا والدي: أما أنا، فأتمنى أن أصحوَ يوما، فأجد نفسي في الستين من عمري، لأتقاضى راتباً تقاعدياً!
حديث الشابين أعاد لي من جديد ملفَّا، كنتُ قد كتبتُ عنه كثيرا، وهو اليأسُ والإحباط، وكيف أن اليأسَ والإحباطَ أصبح طبقاً شعبياً سائداً بين الشباب، وهو مِن أخطرِ أمراض المجتمعات، لأنه لا يحتاج إلى وسائط لينتقل عبرَها، فهو ينتقل عبر ذبذبات الأصوات!
سردتُ لهم كفاحي كشابٍ في مقتبل عمري، ومعاناتي أيضا في زمنٍ آخر، وفشلي في محطات، ونجاحي في محطاتٍ أخرى، أحسستُ أنني خفَّفتُ من وقعِ كآبتهما وإحباطهما قليلا!
أكملتُ: منذ اليوم الأول للاحتلال كانتْ الخطةُ؛ أن ينشغلَ الفلسطينيون بقضايا حياتهم الخاصة عن قضايا الوطن والنضال، لم يكن هدفهم فقط، إبعاد قضايا الوطن عن مركز اهتمامنا، بل أن تتحول قضايا الوطن إلى مُعوِّقات في طريق الحياة، فيتحول الوطن إلى كابوس، يرغبُ أبناؤه في الهجرة منه، وبخاصة الأكْفَاءُ، ذوو العقول والمهارات!
لا أزال أذكرُ أن المحتلين كانوا يشترطون على العاملين المسموح لهم بالعمل في داخل الخط الأخضر أن يكونوا قد تجاوزوا سنَّ الشباب، وأن يكونوا متزوجين، ولهم أولاد، خشية أن تأخذهم حميَّةُ الوطن، وينفذوا عملياتٍ فدائية!
إنها عملية مدروسة وممنهجة، هذه العملية لا تزال سارية المفعول حتى اليوم، وهي اغتيال فترة الطفولة وحميَّة الشباب من أبنائنا، للأسف تجري هذه المأساة في هذه الأيام على يد أهلنا وربعنا!
إن مخزون فلسطين الشبابي هو المخزون الاستراتيجي الذي يُرعب المحتلين، هذا المخزون تحوَّل من بئر بترولنا، ومنجم ألماسنا، وذهبنا، إلى أكبرِ عبءٍ علينا، وأثقل همِّ نحاول أن نتخلصَ منه!
إن مجتمعنا الفلسطيني مجتمعٌ كهلٌ بامتياز، يتولَّى الآباءُ تربية الأبناء على تعلم فنون الكهولة منذ اليوم الأول لحياتهم، فهم يعشقون الأطفال الذين يحفظون أحاديث الكهول، ويفخرون بهم، ويخرجونهم مِن طفولتهم، ليُباهوا بهم غيرَهم!
وهم بهذه الفِعلة يرتكبون أبشع الجرائم في حق أطفالهم!
لا أزال أحفظ قول المبدع، جان جاك روسو، في كتابه التربوي، إميل:
«احذروا، أن تبحثوا عن الرجل في أطفالكم، دعوا الطفولة تنضجُ فيهم»!!
تذكروا أيضا أن معظم أحزابنا، ومؤسساتنا، وهياكلنا الإدارية، تُعزِّز الكهولة، فهي لم تُجدِّد دماءها بالشباب، فالشباب في معظم أحزابنا ومؤسساتنا يُستعملون وَقودا، لإنضاج طعام الكهول!!
إنَّ مناهج الدراسة، وطريقة تربيتنا للأطفال لا تزال تعتمد أيضا في مناهجَ كثيرةٍ، على تدريب الأبناء على آليةِ التخلُّصِ من براءة طفولتهم، ورِقَّة عواطف شبابهم، ليصبحوا قساةً، عُتاةً، كهولا، يخشاهُم، رفاقُهم، ومعلموهم، ومجتمعُهُم، ليحظوا بالرهبة، ويصبحوا عباءاتِ ونياشينَ للآباء، لهذا السبب انتشر وباءُ العُنف بين أطفالنا وشبابنا، وكذلك بسبب غياب تدريس الفنون بمختلف أقسامها!!
سمعتُ أبا يوصي ابنه الصغير الذاهب إلى روضة الأطفال:
«لن أعطيكَ مصروفاً، سأذبحك عند عودتِك، إن وجدتك تبكي من أذى الآخرين، اجعل الآخرين يبكون منك!!»