كيف وصلنا إلى ما نحن فيه؟ سؤال تتطلب إجابته استعراض تاريخ من الاستهتار بقضيتنا المقدسة والتي دفع مئات الآلاف من الشهداء حياتهم ثمنا لها على طريق الحرية، فهذا العام يبدو كأنه الأسوأ في تاريخ القضية الفلسطينية التي تبدو وحيدة خالية من الأصدقاء بمن فيهم العرب الذين تحول جزء منهم إلى الجانب النقيض من الفلسطينيين وفتح نيران أسلحته الإعلامية ممهدا بأن القدس ليست للفلسطينيين.
وهذا لم يحدث منذ أن بدأت الثورة الفلسطينية، كل هذه التطورات المتسارعة بدأت مع وصول الإدارة الأميركية الجديدة ليحدث كل هذا الانقلاب وتضع الفلسطينيين في مأزق شديد كان الأكثر صراحة في التعبير عنه هو ملك الأردن في الحوار الذي دار بينه وبين رئيس الوزراء اللبناني سعد الحريري بتحذيره إلى مخاطر ما يتم رسمه في المنطقة لموضوع اللاجئين على حساب الدول التي يتواجدون فيها والفارق هنا كما قال الملك عبد الله أن إدارة ترامب لا تريد أن تدفع ثمن التوطين لأحد.
«لن يعطي ترامب إنذارا لأحد» هكذا قال الملك المتوجس ريبة من السلوك الأميركي الذي يطبخ في الغرف المغلقة والذي حسب وصفه سيقف عندما تنضج الظروف ليعرض الصفقة الكبرى دون أن يكون معنيا بمفاوضات عميقة مع الأطراف، هو ببساطة سيضع الجميع أمام الأمر الواقع وسيقول لهم هذه هي الخطة وعليكم التنفيذ.
إن ما نسب لملك الأردن هو أخطر ما قيل حتى الآن حول ما يتم تجهيزه لمشروع إنهاء ملف الصراع بين الفلسطينيين وإسرائيل، وإنهائه بالشكل الذي ترسمه وتقرره تل أبيب وهذا لا يحتاج إلى كثير من الأدلة لنعرف أن حكومة نتنياهو بشركائها في البيت الأبيض هي صاحبة القول الفصل في السياسة الأميركية بما يتعلق بالصراع، فوقف تمويل «الأونروا» كان جزءا من حوار نتنياهو مع نيكي هايلي مندوبة الولايات المتحدة في الأمم المتحدة في حزيران الماضي وفجأة تحول إلى سياسة أميركية خالصة وهناك ما يكفي من الدلائل التي لا تحتاج إلى استعراض.
الحكومة الإسرائيلية هي الأكثر تطرفا في تاريخ إسرائيل إذ يسيطر اليمين الاستيطاني على سلطات الدولة الرئيسية الثلاث التشريعية والتنفيذية والقضائية صحيح أن هذا ليس بجديد إذ إن نتنياهو ومجموعة الاستيطان يسيطرون على الدولة منذ عقد ولكن لم تتوفر لهذا اليمين فرصة التعبير عن لحظته السياسية إلا بعد وصول إدارة أميركية شريكة له. فقد حرص هذا اليمين على تبريد كل شيء أثناء ولايتي الرئيس أوباما وفعل كل شيء للحفاظ على الوضع القائم بانتظار الفرصة التي توفرت مع إدارة ترامب وها هو يسارع الخطى نحو التنفيذ بكل ما يملك من قوة ونفوذ في البيت الأبيض.
أوروبا التي بات من الواضح أنها تراجعت خطوتين للوراء في هذا الصراع تاركة الولايات المتحدة كما كانت منذ ربع قرن الراعي الوحيد للملف يبدو أنها لا تريد الاصطدام بإدارة ليس لديها خطوط حمراء مع من يختلف معها، وتلك قارة أصبحت أميل للسكينة والهدوء حتى وإن كان ذلك على حساب منظومة القيم الإنسانية التي أنتجتها الدماء التي سالت في حربين عالميتين طاحنتين على أرضها بالرغم من اعتقاد الفلسطينيين أنهم تمكنوا من تحقيق إنجازات كبيرة على المستوى الأوروبي ولكن يتضح أن تلك كانت بحجم الهامش الذي تسمح به إدارة أوباما.
لقد عاد الرئيس الفلسطيني من بروكسل أكثر إدراكا بالوحدة لأن القارة الأوروبية بدت متماسكة أمام رفض مطالبه بدعوتها للعب دور وسيط وشريك في المفاوضات حتى وإن كان إلى جانب واشنطن، أما أمر الاعتراف بالدولة الفلسطينية فقد توحدت أوروبا في رفض الطلب وإن كان هناك قدر من التمايز في دعم «الأونروا» عن السلوك الأميركي والرغبة الإسرائيلية ولكن الأمر السياسي مختلف، وهنا فإن الحديث عن دور أوروبي ودعم أوروبي أصبح بحاجة إلى إعادة تقييم من جديد فقد تماثلت أوروبا مع أوباما والآن لا تصطدم مع ترامب وتلك حكاية.
أما البنية الإقليمية فهي في ذروة ضعفها وانحنائها أمام العاصفة الأميركية فالخليج العربي قد حدد مكانته الهامشية في الإقليم متحولا إلى عنصر في السياسة الأميركية في صفقة عقدها العام الماضي ودفع ثمنها بأكياس من المال، ومصر مشغولة بانتخاباتها وبالاستنزاف في سيناء والاقتصاد المنهك كل ذلك يجعلها تتجنب أي صدام مع الولايات المتحدة وحاجة الأردن الماسة للدعم رغم إشارات التبرم التي تصدر هنا وهناك، لكن كل ذلك يضع الفلسطيني أمام واقع هو الأكثر تعقيدا والأكثر ضعفا منذ عقود.
وإذا ما تجاوزنا كل ذلك تبقى كلمة السر في الحالة الفلسطينية ولكنها نظرا لما فعله الفلسطينيون بأنفسهم وبقضيتهم من عبث باتوا اكثر ضعفا من المواجهة التي تتبدى على شكل هجوم أميركي يقرع طبول حرب سياسية حدد موعد إطلاقها الملك عبد الله في آذار القادم أي نحن أمام أسابيع تفصلنا عن أسوأ لحظة تواجهها القضية الفلسطينية، سيعرض الرئيس الأميركي ما لديه فيما الفلسطينيون منزوعو الأنياب وبلا مؤسسة حقيقية وحالة التآكل بينهم بلغت ذروتها لتطيح بكل شيء والانقسام تكرس أكثر والضفة تزداد اختناقا وغزة تنهار، محاولات المصالحة هي محاولات تعكس مستوى قدرة الأطراف على إدارة الأزمة فما حققناه من فشل يعكس حقيقتنا التي نحاول إخفاءها ولكننا الآن أمام مرآة الحساب بلا أي ورقة توت.
فما العمل إذا؟ وهو السؤال المطلوب إيجاد إجابة عنه بل وتشكل إجابته مخرجا وإن كان متأخرا، فالتاريخ لا يرحم العابثين والسياسة ليست لعبة حظ إذا لم تنتبه الدول لحجم الأخطار المحدقة وتضع خطط مواجهتها مبكرا فإن مسار التاريخ سيجرفها بلا رحمة ليلقي بها على الرصيف تمضي بنهاياتها على شكل بكائيات .. هكذا كنا نحن ولكن قضية ملأت الكون ضجيجا لن تتم تسويتها في لحظة اختل فيها توازن السياسة في الكون.
أمام الفلسطينيين خياران لا ثالث لها، إما الهروب من المواجهة وصناعة أزمة تتمثل بحل السلطة وتراجع المنظمة المتراجعة أصلا وترك الشعب في مواجهة مباشرة تأخذ طابعا ميدانيا أمام إسرائيل وهذا له ثمنه السياسي ولكن يمكن إلى حد ما من مواجهة تقلب الطاولة في وجه الجميع وأغلب الظن أن هذا لن يحدث لأن ما تم بناؤه لدى القوى الفاعلة في الضفة وغزة أصبح جزءا من منظومة تجد ممانعة كبيرة في تغيرها وإن ثبت فشل تلك المنظومة على الصعيد الوطني.
الخيار الثاني هو الإسراع بإنهاء الانقسام وإعادة بناء النظام السياسي والدخول فورا في انتخابات رئاسية وتشريعية تنتج نظاما سياسيا قويا وهذا له هدفان الأول وهو استغلال الوقت ودفع الخطة الأميركية إلى ما بعد الانتخابات والثانية نشوء نظام سياسي موحد قادر على القول للولايات المتحدة «هذا ما لدينا» في إطار التوافق ولن نقبل بأقل وحينها يتم قطع الطريق حتى على محاولات إيجاد البدائل أو تصريح ليبرمان بأن أوساطا اقتصادية فلسطينية تطالبه بإزاحة الرئيس عباس، كل هذا ممكن أن نتجنبه لكن البقاء كما نحن فهذه وصفة حقيقية للسقوط والانجراف مع رياح الإعصار..!