قبلنا بالانقسام …أو لم نقبل بل نحن أكثر ضعفاً من أن نقبل أو لا نقبل لأن لا أحد طلب رأينا في مشوار استيلائه على السلطة، قبلنا أن يقسم هذا الجزء الصغير نصف المحتل أو ثلاثة أرباع المحتل في الضفة وغزة وليعش من يريد ذروة أمجاده كما يشاء وليتربع في قصور الحكم والجاه، ولسوء الحظ أنه جاء متأخراً أكثر من ألف عام عن عصر الجواري والسلاطين، لأن تلك فقط ما تنقص عن ملوك الطوائف لدينا.
قبلنا بكل شيء رغماً عنا وعلى رقابنا، لكن أن يتم المساس بحقوق البشر الآدمية باسم الخوف من الانقسام والخوف من تكريسه، وهذا الذي وصلت جذوره قبور ياسر عرفات وأحمد ياسين وكل الشهداء المحظوظين لأنهم غادروا ولم يشاهدوا العصر الجديد أو النكبة الجديدة التي تحل بنا والتي ظلت تضغطنا الى حد انعدام الحريات والحقوق والواجبات وكل شيء.
آخر ما وصل إليه الحال من تعبير عن ذروة المأساة هو قيام القضاء الفلسطيني بحجب 59 موقعا وصحيفة وهو ما أثار جدلاً واسعاً ورفضا شبه مطلق للقرار، حتى أن الحكومة التي يضعها القرار في موقف شديد الحرج والتي بدت أن لا حول لها ولا قوة ليس بسبب استقلال القضاء بقدر ما يتعلق الأمر بتجربة فريدة يجري أو جرى صياغتها باتجاه إضعاف الحكومة والقضاء ونزع صلتهما بالقرار، وهو ما عبر عنه بيان الناطق باسم الحكومة الرافض ضعفا وبلا حيلة.
موجة الاستياء من القرار أكبر من القرار نفسه، ولا ينبغي الحديث كثيراً عن تلك الموجة، فالشعوب العربية ومنها الفلسطينيون أصبحوا يدركون طبيعة الحكم في الدول العربية وحجم ومساحة الحرية التي يمنحها العقل العربي حين يمتلك السلطة ويحتكر القوة وأجهزتها الضاربة بلا قانون وبلا رادع، إذ يعرف كل شيء ويتوقع أي شيء ويراقب مساحة الحرية الآخذة في التلاشي، وخصوصاً بعد اهتزازات الإقليم والانقسامات التي تجيء كمبرر تدغدغ العقل العربي الذي يتوق لممارسة الديكتاتورية بأكثر أشكالها قدماً.
لكن المثير حقاً في القرار هو انفصاله عن واقع تَقَدُّم وسائل الإعلام، ويبدو أنه تأثر بجيل كبار السن المنفصلين عن وسائل التواصل الاجتماعي التي أصبحت تحتل الموقع الأول في الاعتماد عليها لبث المعلومات، إذ تشير الدراسات الإعلامية الى أن حوالي 80% يتلقون معلوماتهم عبر وسائل التواصل الاجتماعي والتي تبث سيلاً من المعلومات، حيث جعلت الصفحات الإعلامية والصحف غير قادرة على مجاراتها من حيث السرعة والاهتمام، بل حتى أصبحت وسائل الاعلام مثل تلك التي تم حجبها تعتمد على وسائل التواصل لترويجها.
الصفحات التي تم حجبها بحاجة الى زيارات خاصة للاطلاع على محتواها، وتلك قليلة قياساً بوسائل التواصل ولا يزورها الا مؤيدوها، وهم محسوبون بكل الظروف في اتجاهاتهم السياسية، ولكن مثلاً الفيسبوك والآراء التي يحملها ليست بحاجة الى زيارة لأن صفحات المعارضين مثلاً تقيم داخل أجهزتنا المحمولة وتداهم صفحاتنا دون رابط ولا تحتاج الى زيارة خاصة.
والأهم من ذلك هو أن الصفحات الرسمية بالعادة أكثر رصانة خوفاً على سمعتها وسمعة الجهة السياسية التي تقف خلفها من الصفحات الشخصية التي تحمل من التشهير والشتائم والتخوين والفضائح، وهو ما تربأ عنه بالعادة الصحف بل ويمكن فتح حساب وهمي على صفحة الفيسبوك، وأن يقال أو ينشر فيه الكثير ويجري مشاركة منشور ما، وخلال دقائق تكون قد توزعت الرواية دون انتظار جهة سياسية، وهذا ما لا تجاريه أية صحيفة أو موقع.
وبالتالي يصبح قرار الحجب بلا قيمة عملية، بل ينعكس سلباً على من اتخذه، ففي تسعينات القرن الماضي كان يمكن حجب المعلومات المتدفقة، وفي السبعينات كان يمكن للأنظمة العربية وقف توزيع أو طباعة صحف، لكن الآن قد يشهد سيل المعلومات انفلاتاً لا يمكن لأية سلطة مهما بلغت قوتها أن تتمكن منه، وليس أمامها سوى أن تقدم نموذجا في الاستقامة السياسية، وأن تترك للناس أن يتحدثوا كما يشاؤون، وحينها ستجد من الناس أنفسهم من يدافع عنها.
لكن أن تتخذ قراراً بهذا المستوى الذي يجعل جميع المؤيدين على درجة من الخجل في الدفاع، فتلك سذاجة لم تعد تتلاءم مع روح العصر الحالي ولا وسائله التكنولوجية ولا تطور الزمن، لكن الأخطر أنه يعكس منطق التفكير القديم والذي يمكن أن ينعكس على كل المجالات وتلك أزمة كبيرة.
والأسوأ أيضاً أن قراراً بهذا المستوى قد يعطي المبرر لكل من أراد ممارسة القمع والتكميم في الحالة الفلسطينية، وعادة فإن التاريخ بمجرياته وتجاربه واحد من أهم مرتكزات التراث القانوني، فالقضاء ضعيف وتم المس به، وها هو يتخذ قرارات في غاية السوء والقدم، وتلك ستشكل سابقة لأي حكم لاحق سيستفيد مشرعون آخرون على هذا التشريع، وعندما لا تكفي القوانين الساذجة والقرارات فمزيداً من قرارات بالاعتداء على الحريات، ولا نعرف الى أين سنصل في هذه الفانتازيا التي أصبحت مملة الى أبعد الحدود وساخرة حد البكاء..!!!