بات من المؤكد أن الأموال التي تلقتها السلطة الفلسطينية من المانحين الغربيين على مدار أكثر من عشرين عاماً، لم تكن مجاناً، ولم تقدم الأموال لسواد عيون قادة السلطة الفلسطينية، بل كانت أموال سياسية، دفعها الغرب بعد أن أخذ مقابلها قراراً سياسياً يقضي باستمرار المفاوضات العبثية مع العدو الإسرائيلي، وفي الوقت نفسه استمرار التعاون الأمني الذي مكن المستوطنين من السيطرة بهدوء على الأرض الفلسطينية.
الأموال مقابل الأوطان، هذا هو الشعار، الذي يؤكد على أن كل دولار قدمه المانحون للسلطة الفلسطينية قبضوا مقابله متراً مربعاً من أرض الضفة الغربية لصالح المستوطنين الصهاينة، وأن استلام السلطة لعشرات ملايين الدولارات يعني مقايضتها بمئات ملايين الأمتار من الأرض العربية المرهونة للمساعدات الأمريكية، وهذا ما كشف عنه الرئيس الأمريكي في تصريحاته الأخيرة، حيث اشترط الاستمرار في دفع المساعدات باستئناف المفاوضات، أو بمعنى أدق، مقابل التسليم بالخطة الأمريكية لتصفية القضية الفلسطينية.
لقد انجلت المعادلة، وانكشف المستور، مال المانحين مقابل وطن الفلسطينيين، هذه هي المعادلة التي هندستها اتفاقية أوسلو، ووصلت بالشعب الفلسطيني إلى حائط الصد الذي نطح رؤوسهم، وكشف فقرهم السياسي، وارتباكهم المعيشي، ولاسيما بعد أن جمدت أمريكا الأموال المحولة للأونروا بمبلغ 125 مليون دولار، وما سينجم عن هذا القرار من جوع وفقر وعوز.
ولن يكون القرار الأمريكي يتيماً، فكثير من الدول الأوروبية ستقلد أمريكا، وتقلص مساعداتها، ومن المؤكد أن كثيراً من الدول العربية لن تجرؤ على تحويل الأموال للسلطة الفلسطينية إلا بمقدار الموافقة الأمريكية والإسرائيلية، التي ستضغط على السلطة الفلسطينية حتى تلج إلى دهاليز المفاوضات بحجة حماية المجتمع الفلسطيني، والحفاظ على المؤسسات الفلسطينية من الانهيار، ومحاربة الإرهاب والتطرف، وعدم ترك الأمور تفلت من عقالها، وهذا المنطق يفضح ما وصل إليه حال الفلسطينيين الذي رهنوا مستقبلهم السياسي بالوعود الأمريكية، واعتمدوا في معيشتهم على الاسترزاق من الغريب، وانتظار قطار الرحمة الأمريكية والغربية المشروطة.
ومما يزيد مأساة الفلسطينيين عمقاً، أن القيادة الفلسطينية نفسها، والتي رعت اتفاقية أوسلو، وخاضت حرب المفاوضات الخاسرة على مدار أربع وعشرين عاماً، هي نفسها القيادة التي لم تتعلم من أخطائها، ولم تقف لحظة أمام ضميرها، وقيمها الإنسانية والوطنية، ولم تعلن حتى اليوم عن فشل مشروعها التفاوضي، ولم تعلن حتى اليوم عن فشل برنامجها السياسي، ولم تقدم حتى اليوم اعتذاراً للشعب الفلسطيني عما لحق فيه من ضياع واضمحلال وانقسام، وتصر هذه القيادة نفسها على البحث عن بدائل وخيارات جديدة، سواء على مستوى الراعي الجديد للمفاوضات، أو على مستوى تجاهل كفاءات وطاقات ومنظمات الشعب الفلسطيني، فتصر على التفرد بالقرار، رغم ارتباطه بذيل الدولار.
وحتى لا يقع الفلسطينيون في الخطيئة مرتين، وحتى لا يتكرر الفشل والهزيمة السياسية مرتين، وحتى لا تموت في الفلسطينيين النخوة الكرامة والوطنية وتنطفئ المقلتين، على الفلسطينيين ألا يفتشوا عن حلول تجميلية، وألا يقبلوا بمواقف سياسية شكلية، وألا يرتضوا بخطابات إعلامية، وبيانات شجب واستنكار تحتقر الوطن، على الشعب الفلسطيني ألا يسير ثانية خلف القيادة الفلسطينية نفسها، لأنها هي التي ورطتهم في اتفاقيات أوسلو، وهي التي وضعت في أعنقاهم القيود الأمنية الإسرائيلية، وهي التي ربطتهم في ذيل الاقتصاد الإسرائيلي، وهي التي جعلت منهم فائض أحمال، ومجال تنافس لدى الأحزاب الإسرائيلية، التي راحت تقدم المقترحات الإبداعية لحلول سياسية تضمن الأرض للمستوطنين، وتضمن طاقة العمل من الفلسطينيين، وهذه لعمرك قمة المأساة التي تنتظر ما ظل من أرض وشعب لفلسطين.
واجب الشعب الفلسطيني عدم الالتفاف حول القيادة نفسها التي تسبب في الكوارث السياسية والاقتصادية التي لحقت به، واجب الشعب الفلسطيني أن يعمل بكل طاقته لفرز قيادة جديدة، تتناسب وطاقة شعب عملاق، وقدراته، وتضحياته، وعشقه لوطنه حراً قوياً سيداً، قيادة جديدة شابة، قادرة على أن تقود المرحلة، وتنهض بالأجيال إلى المستقبل الواعد، وما دون ذلك ضياع.