العقل الأميركي هو عقل الصفقة لأن الوطن الأميركي تشكل بصفقات كان كتاب "العملاق" الذي أعده الكاتب الأميركي "جاك بيتي" وشارك فيه ثلاثون مؤلفا يشرح بالتفاصيل كيف أن ولايات بأكملها قد تم شراؤها لتضم إلى الدولة الأميركية وبالتالي علينا أن نصدق ما يجري تداوله وما يتم الترويج له باسم "صفقة القرن" وخصوصا أننا أمام رئيس أميركي قادم من عالم العقارات والصفقات.
تتضح شيئا فشيئا معالم تلك الصفقة التي يتم إخراجها بين العواصم المهمة والتي تحمل ملامح وبصمات إسرائيلية واضحة ليست جديدة بل صدرت قبل سبع سنوات عن مركز "بيغن السادات" في دراسة من 37 صفحة أعدها الرئيس الأسبق لمجلس الأمن القومي الإقليمي اللواء غيورا ايلاند عن حل إقليمي للقضية الفلسطينية يقوم على تبادلية أراض بين الفلسطينيين ومصر وإسرائيل وللمفارقة فقد وضع ايلاند آنذاك في دراسته مساحة 720كم التي يجري تبادلها وتشكل كما كتب آنذاك 12% مساحة الضفة الغربية.
ليس مصادفة أن يجري الآن تداول نفس النسب ونفس الأرقام كمبادرة أميركية كان قد جرت صياغتها في مراكز الدراسات ومؤسسات الأمن القومي الإسرائيلي وهناك من الشواهد ما يؤكد جدية المسألة، فمنذ فترة كان يجري الحديث إسرائيليا عن حل إقليمي وكان ليبرمان رائد التنظير لهذا التوجه حتى قبل الانتخابات الأميركية.
ومع وصول الرئيس ترامب وتشكيل طاقم إدارة ملف الصراع من الثلاثي اليهودي غرينبلات ـــ كوشنير ـــ فريدمان والمرتبط كل منهم بتاريخ أيديولوجي وسياسي بالثقافة الإسرائيلية ودعم إسرائيل، لنا أن نتخيل أن هناك مطبخا مشتركا تشكل منذ بداية العام للإشراف على تحويل خطة مركز "بيغن السادات" وتصور غيورا ايلاند إلى حقيقة سياسية ومسار تسوية وحيد.
الانهيارات الكبرى التي حدثت في الإقليم على مدى السنوات الست الماضية وتبدل التحالفات وشكل الصراعات وانزياحاتها من صراع عربي إسرائيلي إلى صراع سني شيعي أزاحت معها ثوابت وكسرت محرمات وأصبحت الرغبة بالتحالف مع إسرائيل كقوة إقليمية في مواجهة إيران حاجة تتلاءم مع انقلاب المعايير الحاصلة.
حركة دبلوماسية نشطة يكاد غبار طائراتها يملأ الشرق الأوسط وتسريبات شبه يومية كأنها تمهد لشيء كبير، تسريبات معدة بإتقان على ألسنة مصادر أميركية مطلعة، خطوط وخرائط وصحف تنشر وتقديرات لمحللين لنكتشف أننا أمام واقع سياسي لم يعد الطرف الفلسطيني فيه طرفا فاعلا بل يبدو في لحظة أنه يتم التعامل معه كقاصر أو يتيم يجري تداول قضيته مع أولياء الأمر.
تلك ذروة الضعف الفلسطيني بعيدا عن الشعارات والصراعات الداخلية التي تطغى على المشهد البائس من مصالحة واتفاقيات وتفاهمات وتمكين وتراجع وتفسير وإعادة حوار .. حالة من العبث كأن القضية الفلسطينية ليست على المفترق الأكثر خطورة منذ انطلاقة الفصائل الفلسطينية والذي يجري استغلال ضعف الإقليم وتآكل الحالة الفلسطينية وطغيان القوة الأميركية لإغلاق ملفها بأي شكل.
إن ما يجري التحضير له أو التسريب عنه أو تداوله بات على درجة من الوضوح وأصبح ما تعد له دوائر القرار في الولايات المتحدة خارج الإدراج، بل صارت تتداوله الدوائر السياسية والزيارات المكوكية والتصريحات الرسمية التي باتت غير قادرة على تجاهله خصوصا من الجانب الفلسطيني، هذا الذي يتم الحديث عنه وإن لم يطرح بشكل رسمي لكنه بات امتدادا سياسيا للسياسة الإسرائيلية ومعتمدا على ثلاثة تصورات جرى دمجها وهي:
الأول: ورقة غيورا ايلاند للحل الإقليمي وتبادل الأراضي بين دول الإقليم والتي نشرها مركز "بيغن السادات" قبل سبع سنوات وباتت مادة الحل.
الثاني: خطة دولة غزة التي أعدها مركز دراسات الأمن القومي ونشرت منذ ثلاثة عقود حتى قبل اتفاقيات أوسلو بل وجاءت تلك الاتفاقيات لمركز العمل السياسي الفلسطيني في غزة للتخلص منها.
الثالث: السلام الاقتصادي وهو ما تروج له حكومة نتنياهو منذ سنوات كتصور وحيد في جعبتها كانت قد قدمته للإدارة الأميركية السابقة بل وعرضته على الرئاسة الفلسطينية.
لا أحد يعرف ردود فعل الأطراف المعنية حتى اللحظة والتي أصبحت على دراية بما يطبخ إسرائيليا ويتم تسويقه أميركيا مدعوما برسائل تهديدية وخصوصا للفلسطينيين لكن يمكن التقدير بصعوبة التعاطي المصري مع حل كهذا باعتبارها دولة معنية بما يطرح وفق غيورا ايلاند أو دولة غزة باعتبارها امتدادا للأمن القومي المصري، ولا زال نموذج جزيرتي تيران وصنافير والمعارضة المصرية لتسليمهما للسعودية وهي جزر سعودية فما بالنا حين يتعلق الأمر بأراض مصرية وقد ردت مصر الأسبوع الماضي على ما قالته الوزيرة الإسرائيلية غيلا غملئيل عندما أشارت لسيناء ردا صارما باعتبار الأراضي المصرية ليست خاضعة للنقاش أصلا.
أما الموقف الفلسطيني الذي يقف على أرض رخوة بفعل الانقسامات الحاصلة وحالة التشظي التي تسيطر على المشهد ورغم ذلك من المشكوك فيه قبوله لأي حل أقل من دولة فلسطينية على أراضي الـ67 وعاصمتها القدس.
قد يقبل تبادل أراض هنا أو هناك بنسبة بسيطة ولكن ليس حلا انقلابيا على عملية التسوية التي قامت على أساس حل الدولتين وعاصمتها القدس.
لكن في ظل هذا الضعف الفلسطيني هل سيتمكن من مقاومة هجوم سياسي أميركي طاغ مسلح بكل هذه القوة؟ وماذا بعد أن يرفض؟ والثمن الذي سيدفعه لدى إدارة عقارية في مفهومها لإدارة الحياة إما أن تنجح او تكسر منافسها أو من يقف في طريقها؟ أسئلة صعبة لا يخفف منها سوى اصطفاف فلسطيني موحد مبني على وحدة حقيقية ولا يترك متسعا للتشكيك بالتمثيل الفلسطيني.
في مفاوضات شيبردستاون قبل عقدين كان الرئيس الأسبق بيل كلينتون يبلغ فاروق الشرع وزير الخارجية السوري أن يطلب تنازلات من الرئيس الأسد وعندما سأل الشرع: لماذا لا يتنازل أيهود باراك؟ أجاب كلينتون: باراك لديه ديمقراطية وأغلبية وأقلية يسقطونه إن قدم تنازلات أما الرئيس الأسد ليس لديه هذا بإمكانه أن يمرر ما يشاء .. الديمقراطية تحمي القيادة أما حكم الفرد فهو مدعاة للضغط، انظروا لنعرف كيف نحمي أنفسنا ومشروعنا..!