لم يكن ياسر عرفات الرجل الصعب , لكن مواقفه الفولاذية هي من جعلت منه شخصاً خالداً لا يكرره التاريخ ، حتى ذاك المكان الذي احتضنه يخبىء بداخله ما لا تتوقعه عين الناظر.
ثلاثة عشرَ عاماً وحين تأتي ذكراه تجيء لنا بمواقفٍ مستجدة من حياته لم نكن نعرفها سابقاً، نستحضرها كأنها اليوم .
نجزم بأننا خسرنا رجل التاريخ، نعم، عرفات كان الأفضل وكلما أدركنا الوقت وباغتتنا الأيام سندرك كم خسرنا وكأنها الخسارة الوحيدة التي لا تعوض .
حدثنا مؤخراً في إحدى التدريبات التي خضت غمارها المدرب عن عرفات الموقف حين طلبت منه "كوندواليزا رايس " أن يوقع على إحدى الاتفاقيات ليقل لها "دعيني اتصل على مواطن بالمخيم إن قال لي وقع سأوقع "، ليشتاط غضبها وتطالبه بالتأدب حين يتكلم معها وعن أي تأدب هنا تتحدث إذا كان عرفات أتى بها أرضاً برده الساحق لذلك هو الأفضل.
كانت ردوده كالسيف القاطع لا يهاب أحدا، تحضر حنكته في كل موقف ولقاء صحفي لا يحتاج وقتاً لاستحضار الردود، فحين باغتته إحدى المذيعات اللبنانيات بسؤال أسقطت فيه من الكلام ما لم يقله عرفات عن بيروت فأجابها حرفياً "أنا قلت هذا الكلام، عيب، أنا لم أحكم بيروت"، واصفاً إياها بالظالمة، ناهياً اللقاء لأنها نسيت أنها تحادث ياسر عرفات الحد القاطع والموقف الواضح من بيروت، ولو لم يكن كذلك لما اعتبرته إسرائيل عدواً لها من بيروت حتى المقاطعة .
رجل الكلمة المؤثرة الذي لم نعرفه باسمه الحقيقي محمد عبد الرؤوف القدوة بقدر ما عرفناه باسمه الحركي "أبو عمار" لا ينسى أحداً من شعبه في خطاباته ولطالماً وصفهم بالجبارين لا ينسى الأمهات والأطفال والأرامل واليتامى والجرحى حتى الأسرى والأسيرات دوماً كلهم كانوا لديه حاضرين، فكيف يغيب هو عنا ببطولاته ومعاركه التي قادها في الكرامة والعرقوب ولبنان وتونس وغيرهما، كيف لنا أن ننسى أنه عاش مطارداً شجاعاً ناجياً من محاولات اغتيال عدة في بداية حياته باءت جميعها بالفشل ونجا بإعجوبة وسط عناية إلهية وقتها إثر سقوط طائرته عام ٩٢ إلى حصار المقاطعة ومن كل المكائد التي كيدت له وأودت به لضريح يحكي تاريخه .
لم تكن حياة عرفات وحدها اللغز الصعب الذي ما زالت شيفرته تحل يوماً بعد يوم حتى يومنا هذا ، ذلك ما أذهلني ذات يوم حين حدثني أستاذي الصحفي سمير خليفة بعد حلقة أجراها مندهشاً للنسق الهندسي في ضريح ياسر عرفات، وللخبايا التي تكمن هناك حيث ترقد روحه في المقاطعة.
فلنتخيل لدقيقة أن كل شيء في الغرفة التي يرقد بها أبو عمار بضريحه من طول وعرض وارتفاع تبلغ مساحة ١١متراً تخليداً ليوم رحيله شهيداً، حتى تلك الحجارة التي سورت بها جدران الغرفة حملت رقماً تاريخياً لعام استشهاده"٢٠٠٤".
كان كل شيء متقن لدرجة أن الناظر والسامع يكاد يتسمر أمام كل معلومة سيتلقاها كما حالي حين سمعت .
تمنى أن يتوارى جسده ويلتحف أرض القدس، لكن ذلك لم يتحقق وهذا ما يحكيه لنا ضريحه الذي أحيط ببركة توحي أن مكان عرفات الدائم ليس هنا بل بالقدس وما تلك البركة بتموجاتها إلا لتدل على عدم الاستقرار والثبات للقبر في المقاطعة برام الله إنما سينقل بذالك الصندوق الذي يحتوي جثمانه بداخل القبر للقدس شهيداً كما ردد دوماً شهيداً شهيداً ليدفن وتستقر روحه .
وتزداد الخبايا ففي ضريحه أُحيط بكل ما عايشه بجانبه من حجارة لأشجار جلبت من كل البلدان جميعها جلبت لتكون بجواره لكي يخلد بأمان مطمئناً بتلك الأضواء التي حملتها منارة أو سارية المسجد التي ترتفع ١١مترا متجهة بأضوائها صوب قبة المسجد الأقصى حيث سينقل جثمان عرفات ويدفن فيه.
غاب عرفات لثلاثة عشر عاماً، لكنه لم يكن البطل الخارق بقدر ما كانت مواقفه التى خُلدت بضريح حمل تاريخ رجل لا يختلف على تاريخه اثنين .
وتبقى لحياة وضريح عرفات خبايا تكشف للنور عاماً بعد عام.