شهداء بلا شاهد قبر، بل شاهد نفق ممتد في باطن الحلم المسكوب والمسكون منذ الرضاعة، أي فتية هؤلاء آمنوا بوطنهم متسلحين بأسنانهم نحو القدس ولم يبدلوا تبديلاً رغم الانهيارات التي تتساقط في الإقليم، ظلوا صامدين حتى الموت مرددين: نعم قد نموت ولكننا سنقتلع الموت من أرضنا، وقد نزلوا إلى الجذور لاقتلاعه.
هل عرف هؤلاء الفتية أن تذكره الرحيل نحو الوطن بلا عودة؟ وهل عرفوا أن غربان الموت تلاحقهم في البر والبحر وتحت الأرض أيضاً؟ كانت لعبة الموت الوحيدة التي أتقنوا الهروب منها وهم يبحثون عن حياة لشعبهم هي التي حاصرتهم هناك في الظلام، بماذا كانوا يفكرون وهم يتحضرون للنهاية؟ كيف مرت الساعات والدقائق الأخيرة؟ هل كان الموت رحيماً بالغاز من دولة لم تتوقف عن القتل وتلك وسائلها في الرحمة؟
انتظرتهم أمهاتهم وزوجاتهم وأطفالهم ككل المقاتلين العائدين من ميادين النصر، لكن هذه المرة خانهم القدر وظلت الأم تنتظر قبلة الجبين قبل أن يلقي ابنها السلاح كأجمل الأمهات التي انتظرت ابنها لكنه لم يعد مستشهداً، بقي هناك، تحول النفق إلى قبر ابتلع كل أحلامها دفعة واحدة فبكت دمعتين ووردة.
أي سادية تلك التي تمنع انتشالهم؟ أي عقل هذا الذي يستثمر في الموت مجرداً من أي إنسانية؟ ففي كل الأحداث والكوارث تسقط جدران السياسة نحو مشاعر الفطرة الأولى وتهرع طواقم الإنقاذ والدفاع المدني بلا حسابات. ألم يشارك الفلسطيني في عمليات الإنقاذ العام الماضي عندما اندلعت الحرائق في حيفا؟
أن تمنع إسرائيل انتشال الأبناء لتسجل على نفسها دليلاً جديداً دامغاً على عقلية توغل في الجنون بلا رحمة، تسقط السياسة والأمن والدفاع المدني والقضاء ومؤسسات حقوق الإنسان الإسرائيلية في وحل التهمة التي طاردت وتطارد إسرائيل وهي تسعى جاهدة لنفيها ولكن الأحداث الصغيرة تعيد المحاكمة من جديد.
نريد أبناءنا هكذا بكل بساطة، فقد تعبنا من خيانة التاريخ لكل شيء كأن ظلّ بلفور يطاردنا بعد قرن ويلاحقنا في كل زاوية نريد أن نشيعهم على الأكتاف، أن نحتفي بمن ذهب هناك معتقداً ببراءة أنه ذاهب لاستعادة وطن مسروق ليسرقوا حلمه وعنبه وزيتونه وروحه أيضاً.
أي حق هذا الذي يعطي للإسرائيلي أن يظل يلاحقنا في أرضنا ومائنا وسمائنا وأبنائنا ومن حقه أن يصادر كل شيء وأن يسرق كل شيء، وعلينا نحن أن نقدّم كل فروض الطاعة وشهادات حسن السير والسلوك وأن نحمد ربنا على هذا الاحتلال ونعمته الجاثمة على قلوبنا وعلى أرضنا وتتحكم بالهواء الذي نتنفسه؟
إنها معادلة بائسة يقبلها هذا العالم المتواطئ بلا ضمير، وإن قبلها فإن ملح الأرض الذين أنجبتهم هذه الأرض لم تطوعهم كل الخيانات وأحدث ما أنتجته مصانع السلاح من وسائل القتل الحديثة يريدون وطناً.
لا يعرف الإسرائيلي حجم العناد والإصرار لدى هذا الشعب الذي يقاتل منذ فجر التاريخ، ولا يعرف أن كل ما امتلكه من سلاح لن يحدث ما أراد من كي لوعي الفلسطيني الذي اتخذ قرار استقلاله بلا رجعة ومهما كلف الثمن من دم ودموع، ولا يعرف هذا الذي يتملص من السلام أن بديلها الوحيد هو الصراع لدى شعب قرر المواجهة بلا رجعة.. هل يفهمون ذلك؟
عندما تقرر الشعوب التمرد، هنا يكون استمرار الاحتلال مضيعة للوقت، وشعبنا قال: إنه لا عودة للوراء، ولا للحياة تحت الاحتلال، ولسنا شعباً من العبيد الحطابين والسقائين. نحن شعب عريق يعتز بثقافته على هذه الأرض ولم يأت بالصدفة. نحن امتداد لتاريخ طويل نما وترعرع وحفر ذاكرته الشاهدة عليها الآثار في كل مكان، وشعب كهذا لا يمكن إزالته وذات مرة قرروا شطبه قبل سبعة عقود لكنه عاد محملاً بما يملك من عتاد الإرادة التي تكفي وقوداً للرحلة الطويلة.
يجب أن نفضح إسرائيل التي تقايض الأبناء تحت الأرض بأسراها .. تلك وحدها قصة بل فضيحة أخلاقية لم يسقط بها أكثر مجانين التاريخ انحداراً. إسرائيل هنا تضبط متلبسة بالسادية ومجردة من الإنسانية في صراعها مع شعب لا يريد سوى السلام، بل أرغمته إسرائيل على الحرب. وفيما يقاتل الفلسطيني من أجل العدالة يقاتل الإسرائيلي من أجل استمرار الاحتلال، وتلك قصة ينبغي إبرازها والتركيز عليها في خطابنا.. آن الأوان لأن يعترف العالم بأنه لا سلام عند الطرف الآخر، بل إن الحكومة الحالية هي أفضل وصفة للحريق ولتدمير أي فرصة للسلام.
نريد الأبناء مثل كل الشعوب التي تحفظ كل مقاتليها وترصعهم بالأوسمة، نريد أولئك العائدين من المعارك أحياء أم أمواتاً، وقد لا تعرف إسرائيل أن هذا الشعب الذي يعض على جراحه منذ سبعة عقود دون أن يصرخ لن يهزه حتى إذا ما تحول النفق إلى قبر، فمن قرر الصعود نحو الجلجلة لا يهمه شكل الموت. فماذا يضير الشاه سلخها بعد ذبحها لدى شعب لم تكن الحياة تحت الاحتلال بالنسبة له سوى مسلخ مفتوح؟ ومع ذلك يجب التقاط الحدث كدليل على نزع الإنسانية عن دولة الاحتلال، ولا ضير أن نطالب بفرق إنقاذ دولية للبحث عنهم بهدف إحراج إسرائيل... ما المانع؟ لقد ضبطت متلبسة..!