ينشر فلسطينيون وعرب من وقت إلى آخر صوراً فوتوغرافية لنساء وصبايا سافرات قبل ثلاثين وأربعين وخمسين عاماً، بنوع من النوستالجيا، في محاولة للقول إن الأمور لم تكن دائماً كما هي الآن.
وأخيراً، التحق السعوديون بالركب. لم يصلوا إلى صور النساء السافرات، بل نشروا صورة لدرس التربية الموسيقية في جدة في ستينيات القرن الماضي. بالمناسبة كانت في جدة دور للسينما حتى مطلع السبعينيات.
والمهم، في الأمر، أن وسائل إعلام سعودية مُقرّبة من الحكومة (ومَنْ هناك غير مقرّب من الحكومة) نشرت الصورة المعنية، وذيلتها بشرح مستفيض عن الأنشطة الموسيقية في المدرسة السعودية، في ذلك الزمن المفقود.
وفي السياق نفسه، سجّلت تلك الوسائل انطباعات مواطنين سعوديين، وكان بينهم من ذكر أن الموسيقى تعزز التوازن الوجداني والنفسي للأطفال (هللويا). والأهم من المهم أن نشر الصورة تزامن مع تصريحات لولي العهد يقول فيها إن التشدد بدأ في بلاده منذ العام 1979، وأنهم لن ينتظروا أكثر، ويريدون، الآن، العودة إلى تديّن التسامح والاعتدال، أما التشدد الديني فسيدمرونه.
وهذا مُفرح ومُحزن في آن. مُفرح لأن بلد المنشأ يجد صعوبة في التعايش مع الوحش الذي أطلقه علينا وعلى نفسه وعلى العالم، ويتعهد الآن بتدميره.
ومُحزن لأن الوحش الصحراوي لم يجد صعوبة، منذ العام 1979 (الصحيح منذ العام 1973) في التوغّل والتغوّل والتغلغل في أبدان مجتمعات حضرية وحضارية، نهرية، وبحرية، كان فيها كل ما ليس فيه، فأنشب فيها مخالبه، وعليها يصدق الآن ما قاله شاعر عراقي غاضب (مظفر النوّاب) ذات يوم: "وأوجع من قاتل يمسح المدية، أن القتيل يموت نفاقا".
يصعب توقع نتائج سريعة، أو حتى آمنة، لمحاولة الانقلاب على الوحش، ففي موضوع كهذا حمولة من البارود الديني والرمزي (والاجتماعي والسياسي، بطبيعة الحال) تكفي لتدمير الجمل بما حمل. هذا ليس موضوعنا، ولا موضوعنا تفسير لماذا يضمر بعض حكّام السعودية، فجأة، كل هذا القدر من البغض للوحش. موضوعنا، اليوم، دلالة العام 1979.
بداية، ينبغي القول إن التحوّلات التاريخية الكبرى لا تنجم عن حدث واحد، بل عن تضافر سلسلة أحداث قد تبدو، للوهلة الأولى، غير مترابطة، وبعضها لا تتضح أهميته إلا بعد عقود، والبعض الآخر تختلف دلالته مع مرور الزمن عمّا كان عليه الحال في لحظة الولادة، وغالباً ما يفشل معاصرو حدث معيّن في استقراء ما ينطوي عليه من دلالات بعيدة المدى.
هذه المقدّمة ضرورية للقول إن كل ما يتجلى من كوارث في عالم العرب والمسلمين في الوقت الحاضر، بما فيها الحروب الأهلية، وانهيار بلدان ومجتمعات، وكارثة الإرهاب التي حلت بالعرب والمسلمين والعالم، وتراجع قيم المواطنة وحقوق الإنسان، وصعود الدكتاتوريات المتوحّشة، وسيادة الانغلاق، والتعصّب، وحتى ضمور الحس المدني والإنساني، في كل مكان من العالم العربي، تعود إلى سلسلة أحداث وقعت في العام 1979.
لم تكن إشارة ولي العهد السعودي إلى ذلك العام معنيّة بكل ما ذكرنا الآن، بل كانت معنية بحدث بعينه مثّل لحظة فارقة في تاريخ بلاده، وتاريخ العالم العربي، والمقصود، هنا، محاولة الاستيلاء على الحرم المكي، وإنشاء أوّل دولة داعشية في النصف الثاني من القرن العشرين.
وقعت المحاولة في أواخر العام 1979، وقد استغرق القضاء على جهيمان وجماعته عدّة أسابيع، واستدعى الاستعانة بقوّات فرنسية خاصة، وضخ مياه في أقبية يصعب الوصول إليها، وصعق المتمردين الذين تحصنوا هناك بالتيار الكهربائي.
وكما في كل شيء آخر، لم تكن للحدث دلالة واحدة، ولم يكن مقطوع الصلة بأحداث تقع في أماكن أخرى. فالجماعات الراديكالية العربية، القومية واليسارية، فهمت محاولة جهيمان بوصفها حركة معارضة ثورية ضد الحكّام السعوديين، فابتهجت بها، وهللت لها. وهذا ما اختزله مظفر النوّاب في قصيدة تحمل اسم جهيمان.
ولم يكن في المذكور وجماعته، بالمعنى السياسي والأيديولوجي، وحتى الإنساني العام، ما يبرر الاحتفاء من جانب قوميين ويساريين حلموا بعالم عربي أفضل، فهو وجماعته من سلالة أولى للدواعش كما نعرفهم ونعرّفهم، الآن، وكما رأيناهم في الموصل والرقة وسيناء وليبيا، وفي عواصم أوروبية مختلفة يقتلون مواطنيها بكل ما توفّر من وسائل. وقد جاءت محاولته بعد أربعين عاماً من محاولة سابقة تمكّن بن سعود من القضاء عليها بمساعدة البريطانيين.
المهم، أن الحكّام السعوديين لم يفهموا محاولة جهيمان على طريقة القوميين واليساريين الراديكاليين في العالم العربي، بل نظروا إليها على خلفية الثورة الإيرانية، التي تمكنت من الإطاحة بالشاه في مطلع ذلك العام، وتمثّلت أهم خلاصاتهم في أشياء من نوع: أن التحديث المتسارع في إيران، واستعداء رجال الدين، والمؤسسة الدينية، أسباب رئيسة أسهمت في فقدان الشاه لعرشه. وبما أنهم كانوا في طور تحديث متسارع بعد تسونامي العوائد النفطية بداية من العام 1973، وبما أنهم ليسوا في معرض الاستسلام لقدر كقدر الشاه، كان عليهم العثور على حل يضمن البقاء.
لذا، بدلا من استعداء رجال الدين، والمؤسسة الدينية، تخيّلوا أن علاج النزعات الدينية المحافظة والتقليدية لا ينجح، بالضرورة، بالمجابهة بل بالاحتواء، بمعنى أن التطرّف الديني يمكن أن يُعالج بمزيد منه، شريطة أن يحدث ذلك تحت العين الساهرة للدولة.
أما كيف حدث ذلك، وعلاقته بأحداث سبقته، ورافقته، وأعقبته، فهذا موضوع معالجات لاحقة للحظة فارقة وحارقة في تاريخ العرب والعالم اسمها العام 1979.