بعد توقيع حماس لاتفاق المصالحة مع الإخوة في حركة فتح، ليس أمامنا إلا أن نبارك ذلك، وأن نهنئ شعبنا باتفاق طال انتظاره، وتحركت من أجل إنجازه كل مكونات شعبنا وأمتنا العربية والإسلامية.
اليوم، وبعد عشر سنوات من الانقسام والمناكفات السياسية، كانت حصيلتها – للأسف - تراجع ملحوظ لمكانة القضية الفلسطينية على المستويين الإقليمي والدولي، وضياع جيلٍ من الشباب أفرغناه - بجهلنا وتخبطنا السياسي - من محتواه الوطني، وأنهكناه معيشياً، وسمحنا لإسرائيل بالتمدد الاستيطاني على أرضنا وتهويد المقدسات، يأتي السؤال: لماذا استمر هذا الانقسام والتناحة السياسية كل هذه السنوات، فيما بدت الأمور - بعد المصالحة - وكأن المسألة كانت هي في حقيقتها من البساطة والسهولة بمكان، ولولا بلاهة السياسيين ومزاجية تفكيرهم، لكنَّا أنهينا خلافاتنا منذ زمن بعيد، وحافظنا على مكانة شعبنا، وحشود أمتنا معنا وخلف قضيتنا؟!
إن السؤال حول من هو المسئول عن كل ما أصابنا خلال السنوات العشر الماضية، يحتاج أن يجد طريقه اليوم أو بعد سنة أو سنوات إلى من يقوم بإجراء المراجعات وعقد المحاكمات، ليعرف شعبنا من كان يقف خلف ما أصابه من كوارث ونكبات!!
إن من الجدير ذكره، أن منطق "عفا الله عما سلف" الذي تعودنا أن يكون ديدن سلوكياتنا للتهرب من الأخطاء، بحاجة هو الآخر إلى إعادة النظر فيه؛ لأن المحاسبة هي سلوك حضاري للأخذ على أيدي من أوردونا موارد الهلاك، وقطع الطريق أمام استمرارية وجودهم في رأس هرم القيادة؛ بانتظار نكبات جديدة.
إن السؤال الذي يدور في المجالس، ويأخذ حيزاً من النقاش بين المثقفين من الإسلاميين، هو: لماذا دائماً نأتي متأخرين، وبعد أن تصل الأمور إلى خيارات الضرورة والاضطرار؟ ولماذا لا يتم اتخاذ القرارات أو مباشرة التحركات ومساحات المناورة واسعة وآفاقها مفتوحة؟!!
ولماذا إذا أقبلنا نبدو كالمهرولين، ولا نجيد اللعب كأصحاب الدراية والمطلعين ببواطن الأمور؟ وإذا جاءت أسئلة المستقبل تبين لنا أن قدرتنا على قراءة التوقعات والاستشراف قاصرة؛ باعتبار أن ذلك من علم الغيب الذي لا يعلمه إلا الله، برغم أن مسألة إمعان النظر وإعمال الفكر هي من أدوات التدبر لفهم مجريات ما هو قادم والتحضير له؟
أسئلة كثيرة مشروعة في نقاشات النخب الإسلامية، وقد آن الأوان أن تصل لكل المستويات القيادية في أي حركة إسلامية لها تطلعات في مشهد الحكم والسياسة.
إن التشديد على مفهوم "السمع والطاعة"، والذي كان يتم التركيز عليه كأحد الفرائض في بدايات تأسيس الحركات الإسلامية قبل ثماني عقود، ربما كان يبدو مشروعاً آنذاك، ويمكننا أن نتفهم المراد من وراء ذلك، حيث كان يغلب على الكادر الإسلامي - في إطار العمل الدعوي العام – البساطة، وقلة المعرفة والدراية، وغياب التجربة الحركية بالطبع، ولكنَّ الإسلاميين اليوم لديهم أفضل الكفاءات العلمية، التي يمكنها أن تدير مؤسسات الدولة إذا ما وضعت اعتبارات الأفضلية خارج دائرة "الولاء والبراء"، والتي تمَّ توظيفها – للأسف - بشكل خطأ، وأظهرت بأن الإسلاميين لا يحسنون الاختيار للقيادة، وأنهم يفضلون أن تكون مرجعياتهم في الاختيار هي لاعتبارات ليس هناك إجماعاً عليها، وتأتي – أحياناً - بأولئك الذين تعودوا السير الهوينا إلى جانب الحائط، وممن يجيدون لغة القول: "نعم سيدي!!".
للأسف، يبدو أن هذا السلوك هو ديدن الكثير من الحركات الإسلامية في عالمنا العربي، ولذلك جاءت نتائج الأداء بعد تجربة الحكم مخيبة للآمال، بالرغم من حالات التمكين التي أُتيحت للإسلاميين بعد الفوز في العديد من الانتخابات التشريعية، حيث فتحت لهم الأبواب مشرعة إلى البرلمانات، ولكنهم لم يتجاوزوا الحالة التي كان عليها غيرهم من العلمانيين؛ أي أن الجميع لم يخرج من كونه "ظاهرة صوتية"، تعمل بمنطق "أشبعته شتماً وأودى بالإبل"!!
الإسلاميون والحكم: تجارب مخيبة للآمال
دعونا نتابع مشهد الإسلاميين على الخريطة العربية، حيث إن حالهم لا يبعث على الارتياح، كما أن ممارساتهم لا تُشجع على التمسك بهم لقيادة مرحلة التحرر من حالات التبعية الاستعمارية، والتخلص من الظلم والاستبداد السياسي، الذي طغى على خريطة عالمنا العربي بشكل عام.. ربما كان الاستثناء الوحيد هو المغرب، حيث تمكن حزب العدالة والتنمية من الحفاظ على شعبيته، وقدَّم ما يجعله متصدراً في المشهد الحكومي.
إذا تابعنا الساحة الأردنية والجزائرية واللبنانية والموريتانية فإننا نجد أن حظوظهم في التمكين قد تراجعت بشكل كبير، أما في العراق وسوريا واليمن وليبيا ومصر فلم نعد نسمع لوجودهم أو تأثيرهم ركزاً، حيث طوت الحروب والصراعات الداخلية كلَّ أثرٍ لهم، أما دول الخليج - وخاصة السعودية والإمارات - فإن المعتقلات غدت مثوىً لهم!!
إن الإسلاميين في عالمنا العربي عليهم القيام بمراجعات حول الكثير من المفاهيم، مثل: الدولة المدنية، والمواطنة، والآخر، والإرهاب، والخلافة، والجزية، والحاكمية، ودار الحرب، والجهاد، والشرعية الدولية... الخ
إننا جميعًا نعلم - اليوم - بأن هناك بعض الأفكار الخاطئة التي سيطرت على كثير من الناس؛ أفراد وجماعات، الذين تزداد حميتهم على دينهم ومعتقدهم، وهذه الأفكار الخاطئة والمنحرفة قد تؤدي إلى بعض الشطط والغلو أو التوجه نحو التكفير والتطرف، وغير ذلك مما يهدد السلم المجتمعي، ويضر بالأمن والاستقرار، ويتسبب بكوارث على مستوى الوطن تُهلك الحرث والنسل، وتأتي على الأخضر واليابس من عمارة البشر، والمشاهد التي تابعناها في العراق وسوريا خير دليل على ذلك.
مفاهيم يجب أن تُصحح!!
لقد استوطنت ذهنيات الإسلاميين الكثير من المفاهيم التي تحتاج إلى إعادة نظر في قراءتها، والتفكير في جدواها، حيث إن الكثير من المصطلحات التي صاحبت ظهور القاعدة وتنظيم الدولة (داعش) تحتاج إلى مراجعات وتصويب؛ لأنها عبأت الشارع الإسلامي - للأسف - بمفردات دينية ثبت خطؤها، وانحراف دلالاتها، وتربى جيل على ثقافة دينية مغلوطة، وكان التوظيف للتاريخ الإسلامي ولبعض الأحاديث (غير الصحيحة) هو ما جرَّ الكثير من علماء السلفية لإسقاط وقائع ما يجرى في سوريا والعراق على تلك الأحاديث، وإشغال الأمة وكأن ما يجري هو الفتح المبين.
نظرية المؤامرة: بين التجاهل والتهويل
إذا ما حاول البعض تحليل مجريات ما يدور حولنا من أحداث، وربط ذلك بصراع المصالح والنفوذ، الذي تديره الدول الكبرى، لم يسلم من التجريح بأنه يؤمن بنظرية المؤامرة، وتحميل كل شيء على ظهر ذلك الآخر، وإعفاء أنفسنا – بالطبع - من المسؤولية.
صحيحٌ؛ أن هناك الكثير من الأسباب حول ما يجري في بلداننا من تخريب ونهب لخيرات الأمة، وإشغالها بحروب جانبية تستنزف طاقاتنا، وتحيلنا إلى شعوب على هامش الأمم.
إن من قراءاتنا للتاريخ السياسي لهذا العالم، يتبين لنا بأن "نظرية المؤامرة" هي واقع قائم لا يمكن إنكاره.. فبعد الحرب العالمية الأولى، تمَّ تقاسم ممالك الامبراطورية العثمانية بين الدول الاستعمارية الكبرى التي ربحت الحرب، وخاصة بريطانيا وفرنسا. وبعد الحرب العالمية الثانية، توزعت دول العالم ومناطق الثروات فيه بين المنتصرين: أمريكا والاتحاد السوفيتي. لقد كانت "حروب الوكالة" بينهما منذ ذلك التاريخ وحتى اليوم هي الدليل على صدقية تلك النظرية، وأن ما نشاهده في سوريا والعراق، وقبل ذلك في كوريا وفيتنام وأفغانستان، هي في الحقيقة جولات على طريق إثبات "نظرية المؤامرة"، حيث تعقد التحالفات بين الكبار لتحقيق مآرب وأهداف كل منهما، ألا وهي السيطرة الاستحواذ على مقدرات الدول، التي لا تملك قدرات بشرية وعسكرية لحماية أراضيها من أطماع تلك القوي الاستعمارية.
وعليه؛ فإن "نظرية المؤامرة" هي حقيقة قائمة في عالم العلاقات والسياسات الدولية، ولكن الانتقاد المشروع هو فقط في تعمد المبالغة بتحميلها لكل أسباب فشل أمتنا العربية والإسلامية، واخفاقها في أن يكون لها مكانة تحت الشمس.
إن مشاهد الحرب على الإرهاب التي تدور رحاها منذ عدة سنوات على أرض سورية، هي أفضل قراءة لهذه النظرية، حيث بات من الواضح بأن هناك صراع مصالح ونفوذ بين أمريكا وروسيا، ويتم توظيف قوى إقليمية لتكون شاهد زور على أفعال الكبار، والتغطية على ما يرتكبونه من جرائم حرب، وجرائم بحق الإنسانية.
ختاماً.. إن الإسلاميين ما زالت شمسهم ساطعة، وأفقهم حاضر، ولا يبدو أنه سيغيب عما قريب، ولكنَّ عليهم العمل على معالجة الكثير من الأخطاء الفكرية والمفاهيمية، التي تعكس حالة من السطحية السياسية، وسهولة الاستغلال لهم، وممارسة الخداع عليهم.
ليس عيباً أن نعترف بأننا قد حدنا عن الطريق، وأخفقنا في قراءة معالمها، وأن بوصلتنا لم نحسن ضبط مسارها، ونشرنا الأشرعة في غير سياقات الريح العاتية، فأغرقنا سفينتنا أو تركناها تتأرجح بنا في بحر لجيِّ حتى حين!!
إن السؤال الذي يطرح نفسه في نقاشات الإسلاميين اليوم هو: هل ما زال بإمكاننا النهوض، وإحياء الأمة من جديد؟ نعم؛ ولكن!! وهذا يتطلب الكثير من الحوارات وورشات العمل بين النخب الإسلامية، لصناعة خارطة طريق جديدة؛ إما أن تقودنا إلى قيادة الشارع بالحكمة والموعظة الحسنة، أو تأخذنا لشراكات سياسية نكون فيها قد وطنَّا ذهنياتنا على كيفية التعامل مع الآخر والتوافق معه، وذلك في مساحات المشترك المتاحة – عادة - داخل مشهد الحكم والسياسة.
إن علينا اليوم أن نعود لطرح ما كنا نقوله ونكتب عنه منذ العام 2006، وهو أننا بحاجة إلى بناء نظام سياسي قائم على الشراكة الوطنية، والتوافق بين الكل الفلسطيني ضمن رؤية سياسية تستوعب منطلقات الجميع، بعيداً عن أجندات هذا الفصيل أو ذاك.
إن الرؤية الوطنية لمشروع التحرير والعودة لا تقوم على قراءة تيار واحد في ساحة تعددت فيها القراءات، ولكنها هي حالة من الاجماع في سياق تكامل الاجتهادات وتقديرات المواقف، لمشاهدة الضوء ساطعاً في نهاية النفق.