في مثل هذا الشهر من عام 1967، اختلفنا على وصف ما حدث. منا من ذهب إلى التبسيط بدافع من الحفاظ على بقايا المعنويات، فسمّى سقوط ثلاث جبهات عربية «نكسة». ومنّا من كان أكثر صراحة في الوصف حين اعتبر ما حدث هزيمة مكتملة الأركان والشروط والنتائج.
بوسعنا تنحية الخلاف على الوصف، ففي حياتنا العربية قاعدة ثابتة تقول إن لم نجد ما نختلف عليه نخترع، فما بالك ونحن في حالة اختلاف دائم على كل شيء.
بعد مرور أكثر من نصف قرن على ذلك الحدث الكبير، صار ضرورياً الإقدام على محاولة جديدة للإجابة عن سؤال ماذا فعل بنا ذلك الحزيران البعيد؟ وما هي تأثيراته في حياتنا التي عشناها والتي سوف نعيشها؟ وليسبق هذا السؤال سؤال آخر، كيف تعاملنا معه أيام وقوع النكسة أو الهزيمة وما بعدها؟ هل تجاوزناه؟ أم كرّسناه كحقيقة مستمرة في إنساننا ومجتمعنا وأمتنا؟
بتبسيط لا يخل بالتحليل والخلاصات، شجع حزيران الفلسطينيين على مواصلة ثورتهم التي حوصرت منذ ولادتها، وبفعل التعويض عن الهزيمة، انفتحت أمامها أبواب أغلقتها بدعم واسع، فتغنى الزعماء بالظاهرة الجديدة وحتى زعيم الأمة آنذاك وصفها بأنبل ظاهرة وجدت لتبقى، كما أن التاريخ يقول لنا إن حزيران أنجب بعض المواليد الجنينية مثل نصر الكرامة الذي صنعه تآلف الجيش الأردني مع الفدائيين الفلسطينيين، وإغراق المدمرة إيلات وحرب الاستنزاف على الجبهة المصرية التي تكللت بإنجاز أكتوبر (تشرين الأول) الذي حققه جيش مصر بكفاءة ومهنية عالية.
غير أن الجانب الآخر من رواية التاريخ سجل معطيات لحزيران تراكمت تحت السطح، إلا أنها انفجرت أخيراً وبوسعنا قراءة حزيران 2019 لنتعرف من جديد.
لم تكن هزيمة حزيران مجرد حدث ينتسب زمنياً إلى الماضي، بل إنه جذر نبتت عليه غابات من حزيرانات إن اختلفت مسمياتها وتوقيتاتها فلم تختلف خلاصاتها «هزائم في كل زمان ومكان».
كان في وعينا أن حزيران 1967 مجرد انتكاسة موضعية محدودة في الزمان والمكان، غير أن ما تلاها على مدى نصف القرن تبين لنا أن الأمر كان أفدح من ذلك، ففي موقعة عربية واحدة بدت خسائر ذلك الحزيران شديدة التواضع أمام خسائر غابة الحزيرانات، التي كست العالم العربي بأصناف متعددة من أشجار الشيطان... قتلى بمئات الألوف، جرحى بالملايين، ومهاجرين بما لا يعد ولا يحصى، فليس المهاجر من يغترب عن بلده بالذهاب إلى بلد آخر، بل من يشعر بأنه غريب حتى داخل بلده وهؤلاء يعدون بالملايين.
أما بالنسبة للفلسطينيين الذين شاءت أقدارهم أن يدفعوا ثمناً مضاعفاً بكل انتكاسة أو حرب شرق أوسطية، فقد ذاقوا الأمرين على مدى نصف القرن الذي تلا ذلك الحزيران، فلا حاسوب يقوى على حصر تضحياتهم من أجل حلمهم وإذا كانت التضحيات واجباً لا فكاك منه فإن ما آلت إليه التضحيات المجيدة ليست بالنتائج المجيدة. ففي حزيران 2019 أمامنا «فلسطينان» بينهما اقتتال لم يسبق أن خاضوا مثله على امتداد تاريخهم القديم والحديث، وخلف الباب يقف أخطر تحدٍ يجسده التحالف الأميركي الإسرائيلي الذي سيفعل كل ما باستطاعته لتنفيذ برنامج عنوانه ومضمونه حل القضية الفلسطينية يكون بتصفيتها، وبرنامج تفصيلي يقود إلى التصفية وهو تحويل الاحتلال العسكري والاستيطاني من احتلال بالقوة إلى احتلال بالتراضي، مع شحمة لتليين المسننات اسمها الحل الاقتصادي.
كنا نظن أن حزيران 1967 أفقدنا الضفة الغربية مؤقتاً ومن ضمنها القدس، وأفقدنا سيناء، وأفقدنا الجولان، وجعل مزارع شبعا الحائرة بين لبنانيتها وسوريتها في وضع ملتبس.
كنا نظن أن الأمر كذلك، فإذا بظنوننا تخيب ويُستبدل بها يقين أكثر فداحة، فإذا كان حزيران 1967 سيطر على ماضينا فإن امتداداته ومؤثراته تسيطر حتى الآن على مستقبلنا.