لا يمكن لغزة إلا أن تكون هي، ابنة النار التي لا تكف عن مشاكسة التاريخ بوطنية كأنها نذرت نفسها لحراستها بحدقات عيونها ….بالدم واللحم المتناثر من حجارة البيوت المتطايرة على رؤوس أصحابها وعلى رؤوس أشهاد باتوا كأصنام لم يعد يحركهم كل هذا الدمار الذي تصبه آلة البطش التي استحدثت كل وسائل القتل بأرقى ما وصلت اليه التكنولوجيا.

هي غزة الجزء الأصغر في الوطن والقلب الأوسع الذي لا يتوقف عن ضخ الدم في عروق مشروع رسمت مؤامرته قوى عظمى مجردة من أخلاق ادعتها وهي تؤسس لمنظومة دولية خالية من الظلم والقهر فاذ بها تصطف أو تصاب بالخرس في أفضل حالاتها حين يكون الدم فلسطينياً والقاتل يعتمر قبعته ونجمة سداسية أصبح كل رأس فيها ثكنة عسكرية تصب النار بلا رحمة.

غزة لم يطعنها التاريخ الذي بدا كأنه صب جام غضبه عليها فقط، بل تبدو كأنها تركت وحيدة طعنها الأعداء وطعنها الأصدقاء أكثر حين تركوها تذبح من الوريد إلى الوريد وطعنها أبنائها عندما عانقوها حد الاختناق حين اقتتلوا عليها لتصبح يتيمة وحيدة ضحية الجلاد وضحية الضحية.

لم تتقدم غزة ولكنها لم تتراجع تحطمت ولكنها لم تنهزم كما قال الكاتب «آرنست همنجواي» كأنه كان يقصدها عندما لخص صراعات التاريخ وصراعات البشر في جملة واحدة «تستطيع أن تحطم الإنسان ولكنك لا تستطيع أن تهزمه» هكذا هي غزة التي ما زالت تتمرد بعفوية دون أن تسأل عن الثمن وهو شلال من الدم لم يتوقف حتى حين كف الاقليم عن أن تكون فلسطين قضيته المركزية ظلت غزة تعلن استئنافها عن كل الأحكام الجائرة.

غزة التي كان يفخر بها ياسر عرفات مجبولة بحجارة القدس المعتقة ظل يرى في غزة دفيئة مشروع لم تنبت أوراقه بعد فهي حاضنة لوطن كبير رغم فقرها عزيزة وكريمة بالدم حين كان يستدعيها توقع حضورها العفوي وسط المعركة مسلحة بسيف الارادة وذاكرة من لهب هي غزة ولن تكون إلا هي.

مسكينة غزة الفقيرة التي لم يبق في جسدها متسع لطعنة سيف… فقيرة …حزينة تتلقى الضربات دون أن تصرخ واعرباه لأنها تعرف أن مأساتها ليس فقط فيما تلقيه السماء من حمم بل لأن أبناءها الذين اقتتلوا عليها جعلوها عرضة لكل الاهانات والتسول ورغم كل هذا تبكي بهدوء حتى لا يسمع الأعداء ما فيها من خزف مكسر ولأنها تملك من الارادة ما يمنعها من العويل والصراخ هي غزة التي لا تنهزم حين تتحطم.

آن الأوان لهذه المنطقة الحزينة أن تأخذ استراحة محارب تبدأ من مصالحة الأبناء فقد طالت رحلة الانقسام الذي سار على جسدها فأنهكها، لأنها ورغم الإرادة العالية التي تبدعها هناك من يتربص ليأخذها بعيداً ويسلخها عن الوطن فهي رغم صغر مساحتها لكنها التي لا تكف عن أن تكون النداهة الوطنية وسط حالة التيه وإن كان الصوت من دم ومكبرات الصوت من قذائف.!!