غزةُ تُضمدُ جراحها وتودع ابناءها الذين يرحلون في صراع الانقسام المُر دون نحيب أو صراخ، وتدفع ثمن تضحياتها، فيما لا يكف طرفي الانقسام عن التورع في القتل والاعتقال السياسي ومصادرة الحريات وتسميم الأجواء الداخلية وصناعة القهر والوجع حفاظًا على سلطة لا تحمل من السلطة إلا اسمها.
غزةُ يا سادة لا تحتضن ابناءها وأوجاعهم ولا تقدر على حمايتهم من الفقر والجوع والألم، بل تدفع بهم نحو مصير مجهول بحثاً عن حياة ومستقبل باهر، تدفع بابنائها نحو الألم لعله يكون أملهم وإن تعددت الوسائل، يعبرون البحار في مراكب متهالكة عفا عنها الزمن عبر سماسرة لا يعرفون للرحمة مكان، سماسرة الموت يحملون ابناء غزة نحو الضياع ثلة منهم من ينجو لبر الأمان.
في غزةَ يصطف مئات الآلاف من الخريجين والعمال في طوابير الانتظار والبحث عن مستقبل زاهر، حيث أن ثلثي الشباب في غزة يعتمدون على ذويهم، و(20%) من الشباب غير قادرين على السفر للخارج للبحث عن فرص عمل، فيما نحو (42%) من الشباب انعدم لديهم الأمل في الحصول على فرصة عمل.
غزةُ تُضيّع ابناءها في صراع الانقسام الذي لا جمل فيه ولا ناقة، غزةُ التي تنتصر بتضحيات ابنائها في معارك التاريخ على الأعداء تُهزم في المعارك الداخلية. غزةُ لا تريد أن تكون تجارةً خاسرة للسماسرة بل كنزاً معنوياً وأخلاقياً لا يقدر لكل العرب. قد ينتصر الأعداء على غزة كونها تخوض معركة الانقسام الداخلي، وقد يكسرون عظامها ويزرعون القنابل في أحشاء أطفالها ونسائها ويرمونها في البحر أو الرمل أو الدم، ولكنها لن تسكت وستواصل الانفجار لأن أسلوبها هو إعلان جدارتها بالحياة.
غزةُ لا تدري من يقودها وإلى أين تُقاد، ولا تعرف ماذا سيجري غداً، وكيف ستحل مستقبل ابنائها الذين يغوصون في مستنقع الفقر والبطالة والجوع والقهر بسبب الاحتلال الصهيوني والانقسام الداخلي والسياسات الحكومية الخاطئة، غزةُ تصل نسب الفقر فيها أكثر من (53٪) والبطالة لـ(47%) وفي صفوف الشباب تتجاوز الثلثين، وانعدام الأمن الغذائي نحو (70%)، و(80%) من سكانها يعتمدون على المساعدات الإنسانية المختلفة التي لا تغطي أكثر من (30%) من فجوة الفقر وربما أقل من ذلك بكثير.
غزةُ بمساحتها الصغيرة البالغة (365 كم²) ويقطن على أرضها أكثر من 2 مليون إنسان لا تشبهها أي من مدن العالم في النسب الأعلى في الكثافة السكانية، والفقر والجوع والقهر والوجع عالمياً. رغم ذلك غزة لا تعرف الدمع والحزن وهي أكثر من قدمت من ابنائها شهداء وضحايا سواءً على يد الإرهاب والفاشية الصهيونية المنظمة، أو في صراع الانقسام المُر وتداعياته.
في غزةَ تتعدد أشكال البؤس والوجع، وتتسابق حكومة السلطة الفلسطينية وسلطة الأمر الواقع على فرض ضرائب وإتاوات وأذونات بمسمياتها المتعددة، ولا تُعيّرا اهتماماً لواقع الفقر والجوع والألم، في غزةَ تتلوث مياه الشرب وتتلون مياه البحر بمياه الصرف الصحي، وتغرق بمياه الأمطار، ويعم في غزةَ سواد انقطاع التيار الكهربائي لساعات طويلة، وفي غزةَ تُصادر الحريات بأشكالها المختلفة.
ورغم ذلك، فغزةَ هي الأشدُ قدرة على تعكير مزاج العدو وراحته، فهي كابوسه لأن أطفالها بلا طفولة وشيوخها بلا شيخوخة.... كما وصفها شاعر فلسطين محمود درويش.
التاريخ يشهد أن شعب فلسطين يدفع لوحده ثمن الحصار والانقسام ومعارك الأعداء والخصوم، ثمن الفقر والبطالة وغياب الأمل، وهو الذي رأى في «إعلان الجزائر» مُخلّصًا له من الأوجاع والآلام والقهر والجوع، لا يرى ما تراه العين من شواهد في الميدان نحو مصالحة الأخ مع أخيه، والابن مع أبيه.
شعب فلسطين يشاهد ويعيش صراع وخوض الخصوم السياسيين على المنابر المختلفة معارك شتى. فكلنا مهزومون في معارك الانقسام الخاسرة، فيما المنتصر الأوحد هو الاحتلال الصهيوني الذي صنع الانقسام والضياع والتيه السياسي الفلسطيني باعتراف قادته.
شعب فلسطين ينتظر وضع آليات عملية لترجمة «إعلان الجزائر» الذي وُقع في تشرين أول (أكتوبر) الماضي، ولا يريد اتفاقاً جديداً فلديه ما يكفيه من الاتفاقات وجولات الحوار في عديد العواصم العربية والإقليمية والدولية والنتيجة صفر مكعب.
فلسطين تستحق بناء نظام سياسي مبنيّ على الشراكة والتعددية لا على الفئوية والثنائية المقيتة، عبر انتخابات ديمقراطية لمؤسسات السلطة ومنظمة التحرير الفلسطينية وفق قانون التمثيل النسبي الكامل، وفق قواعد وقوانين حركات التحرر، وتشكيل قيادة وطنية موحدة للمقاومة لتؤطر وتقود نضالات شعبنا لتجني ثمار التضحيات العظيمة.
فلسطين ستبقى عصيّة على الكسر وستصمد في وجه المؤامرات التي تُحاك ضدها، وغزة والقدس ستخرجان أقوى من جراحهما ومأساتهما مهما حاول البعض العبث فيهما وإفراغ القضية الفلسطينية من مضمونها وتصويرها أنها قضية إنسانية، لأنه لا دولة فلسطينية دون غزة والقدس ولا دولة في غزة.