سلّطت عمليات الاغتيال الإسرائيلية الأخيرة ضد قادة المقاومة الفلسطينية في الضفة الغربية الضوء من جديد على تلك الوسيلة القديمة الجديدة التي تستخدمها أجهزة الأمن الإسرائيلية للتخلَّص من أعدائها، سواء كانوا فلسطينيين أو من جنسيات أخرى.
بعد غياب لفترة ليست قصيرة، عاد العدو لاستخدام أسلوب التصفية الجسدية ضد كوادر المقاومة الفلسطينية في مدن الضفة المحتلة ومخيماتها من دون إعطاء الضحية فرصة الدفاع عن نفسها أو مقاومة عملية تصفيتها، إذ أقدم فجر 23 تشرين الأول/أكتوبر الماضي على اغتيال الشهيد تامر الكيلاني، القائد في مجموعة "عرين الأسود"، في نابلس، من خلال تفجير عبوة لاصقة وُضعت في دراجة نارية رُكنت إلى جانب الطريق.
وبعدها بيومين فقط، أقدم على اغتيال الشهيد وديع الحوَح، أبرز قادة "العرين"، في المدينة نفسها، من خلال طائرات مسيّرة انتحارية لاحقته داخل البيت الذي كان يتحصّن فيه. وأخيراً، وكما يبدو ليس آخراً، اغتال الشهيد فاروق سلامة، أحد قادة "كتيبة جنين" ومؤسسيها، من خلال "فرق الموت" التي باغتته بصليات من بنادقها الرشاشة عندما كان يتحضّر لحفل زفافه.
العمليات الثلاث المذكورة سابقاً ربما تكون باكورة سلسلة طويلة من عمليات الاغتيال الممنهجة، التي ستحلّ في كثير من الأحيان بديلاً من العمليات العسكرية التقليدية التي تعتمد في معظمها على أسلوب محاصرة المطلوبين في محاولة لاعتقالهم، وتتحول في بعض الأحيان إلى عمليات قتل، وخصوصاً في حال رفض الشخص المستهدف تسليم نفسه أو أبدى مقاومة في مواجهة قوات الاحتلال.
"إسرائيل" صاحبة تاريخ طويل في هذا الجانب الدموي الذي تطلق عليه مصطلح "القتل المستهدف" أو "الإحباط الموضعي"، وهي تتذرع على الدوام بأن هذا النوع من العمليات يأتي لمنع هجمات وشيكة، وعندما لا يكون خيار الاعتقال أو إفشال هذه الهجمات بطرق أخرى قابلاً للتنفيذ.
يقول مائير داغان، رئيس الموساد السابق، في إطار تبريره استخدام هذه الطريقة: "هذه العمليات جزء لا يتجزأ من الإستراتيجية الدفاعية لمواجهة تهديدات الأمن القومي أو حتى تغيير التاريخ في بعض الأحيان"، فيما تصف مصادر استخبارية إسرائيلية عمليات الاغتيال بأنها عبارة عن "نهج شديد الدقة" لا يُستخدم إلا في حال كان الهدف نوعياً وخطراً، ويمكنه أن يكون فعالاً من حيث تطوير إمكانات العدو (المقاومة) أو رفع منسوب خططه العملياتية وقدراته التسليحية.
وقد حاولت الحكومة الإسرائيلية أن تقدم مبرراً قانونياً لتلك العمليات البشعة، إذ قضت المحكمة العليا في "إسرائيل" بأن "القتل المستهدف" هو أحد أشكال الدفاع عن النفس المشروعة ضد من وصفتهم بـ"الإرهابيين".
بدوره، أعدّ معهد أبحاث الأمن القومي دراسة عام 2018، رأى فيها أن قضية الاغتيالات التي يتم اللجوء إليها في سياق الحرب على "الإرهاب" تعبّر عن حالٍ من التصادم بين قيمتين أساسيتين، هما الأمن الشخصي للمستوطنين الإسرائيليين وحقوق الإنسان للطرف الآخر (الفلسطينيين)، وأن ضمان الأمن للفئة الأولى يبرر اللجوء إلى هذه السياسة ضد الفئة الثانية، غير أن الكثير من منظمات حقوق الإنسان المحلية والدولية، ومن بينها مؤسسات إسرائيلية، تصف عمليات الاغتيال تلك بأنها ترقى إلى تنفيذ أحكام الإعدام من دون محاكمة، وأنها مخالفة لكل القوانين ذات الصلة بحق الإنسان في العيش من دون أن يهدد حياته أحد.
ويعدّ أسلوب الاغتيال في الفكر الإسرائيلي سلوكاً أساسياً وأداة جوهرية تتقدم أحياناً على أدوات أخرى كأولوية لا غنى عنها. وتملك الأجهزة الأمنية والاستخبارية في "إسرائيل" خبرة كبيرة في هذا المجال الذي مارسته قبل تأسيس "دولة إسرائيل"، وهذا ما أوجد عندها وفرة في الخيارات والأساليب ومرونة وسهولة في الحركة مكّنتها من تنفيذ عملياتها بنسب نجاح كبيرة.
وفي "إسرائيل"، يصنّفون عمليات الاغتيال في خانة "العمليات الخاصة" وشديدة الخصوصية، لأنها لا تتم إلا تحت غطاء كثيف من السرية والكتمان اللذين يحققان بدورهما عامل مفاجأة للهدف المراد اغتياله. لذلك، لا بد من أن يتم التخطيط للاغتيالات وتنفيذها بقرار رفيع المستوى، وبأداء وتنفيذ عالي التجهيز والتدريب والمهارات.
وهنا، يجب الإشارة إلى أمرين أساسيين يتحكَّمان في أي عملية اغتيال، هما القدرة والمهارات العالية التي يجب أن تتوفر في فريق التنفيذ، والتركيز العالي لاقتناص فرصة تراخي العدو المراد اغتياله، بمعنى استغلال أي ثغرة أمنية لدى "العدو" واستخدامها في إتمام عملية الاغتيال بنجاح.
وفي حال كان هناك قصور ما، ولو بنسبة ضئيلة، في أحد هذين الأمرين، ستتعرض العملية بمجملها لمخاطر جمة، وقد تُمنى بفشل ذريع، وبنتائج قد تكون كارثية، على غرار ما حدث في عملية "كمين انصارية" في جنوب لبنان في الخامس من أيلول/سبتمبر 1997، والتي قُتل فيها 12 جندياً صهيونياً من وحدة "شييطت 13"، أو كما حدث في عملية "حد السيف" شرق مدينة خانيونس جنوب قطاع غزة في تشرين الثاني/نوفمبر 2018.
وقد احتكمت قرارات الاغتيال التي تم التصديق عليها منذ تأسيس كيان الاحتلال إلى معايير ثابتة وضوابط صارمة، كان من أبرزها عاملا المكان والجغرافيا، ومدى قدرة فرق الاغتيال على الوصول إلى هدفها في توقيت مناسب من دون أن تتعرض لمخاطر أو أضرار.
كذلك خضعت تلك القرارات لمعيار مدى أهمية الهدف ومكانته التنظيمية ومدى تأثير غيابه في تماسك فصيله أو حزبه، إضافةً إلى الغاية الأسمى من اغتياله، سواء بدافع الانتقام أو لنشر حال من الخوف والذعر في أوساط أتباعه أو زملائه.
وقد تولًّت فرق الاغتيال التابعة لجهاز الموساد "الاستخبارات الخارجية" تنفيذ العمليات خارج الأراضي المحتلة، في حين تولت وحدات المستعربين، مثل "اليمّام والدوفدفان" وغيرها، وبإشراف وتوجيه من جهاز الأمن الداخلي الإسرائيلي "الشاباك"، عمليات الاغتيال في المدن الفلسطينية.
هذه الوحدات التي تم تشكيلها إبان الانتفاضة الفلسطينية الأولى بأمر مباشر من وزير الأمن الإسرائيلي في حينه، إسحق رابين، والتي كان يُطلق عليها "فرق الموت"، نفذت أكثر من 460 عملية اغتيال خلال السنوات العشرين الأخيرة، فيما بلغت تلك العمليات منذ تأسيس "إسرائيل" أكثر من 2900 عملية.
ترتكز عمليات الاغتيال التي تنفذها قوات العدو الخاصة على قواعد أساسية تكاد تكون مشتركة بين معظم العمليات، وهي تعتمد بشكل خاص على جمع أكبر قدر ممكن من المعلومات عن الشخص المستهدف.
وفي بعض الأحيان، تستمر فترة جمع المعلومات لسنوات في حال كان الهدف يتمتع بحماية أمنية عالية، وتتم فهرستها وأرشفتها مع إضافة أيّ معلومة جديدة ترد، سواء من خلال الجمع العلني أو السري، للاستفادة منها عندما يُتخذ قرار التصفية، إذ يتم وضع الخطة المناسبة للعملية بناء على تلك المعلومات، ويتضمن ذلك التفاصيل التي تبدو تافهة مثل "عناوين السكن، والعمل، والهاتف، وأسماء أفراد الأسرة وزملاء الدراسة والجيران، والمحلات التي يشتري منها ملابسه وحاجات منزله" وغيرها الكثير، إضافةً إلى الاعتماد على المعلومات التي يوفرها استخدام الهدف لوسائل التكنولوجيا الحديثة، ما جعل عمليات الاغتيال أسهل وأسرع.
وفي هذا الإطار تحديداً، يقول الخبير الأمني والعسكري الإسرائيلي يوآف ليمور: "إن الاغتيالات في الماضي كانت معقّدة للغاية، وتطلّب وجوداً مادياً على الأرض لتنفيذ الجزء الأكبر منها أو تنشيط (العملاء) المرسلين لجلب معلومات محددة، لكن التكنولوجيا اليوم جعلت الاغتيالات أسهل بكثير، إذ يحتفظ معظم المستهدفين بحياتهم في الهاتف والكمبيوتر وشبكات التواصل".
وأضاف ليمور: "بات بالإمكان اقتحام كل هذه المعلومات للحصول على صورة جيدة للهدف المطلوب. وقد تساعد البيانات التي يتم الحصول عليها من الشخص المستهدف في بناء صورة استخباراتية لأهداف أخرى محتملة، وخصوصاً إذا كانوا ينتمون إلى الفصيل أو المجموعة نفسها.
ويمكننا في هذا الإطار أن نلفت نظر رجال المقاومة الأعزاء إلى بعض "السلوكيات" التي يجب الابتعاد عنها قدر الإمكان، حتى لا تتحول إلى "ثغرات أمنية" تساعد العدو في الوصول إليهم واستهدافهم.
1- الأعمال الروتينية: هي أن يكرر الشخص المستهدف الأعمال نفسها بالوقت والمكان والطريقة نفسها. هذا الأمر من شأنه أن يمكّن العدو من رصده وتتبعه والتجسس عليه، واقتناص الفرصة والمكان والزمان المناسبين لتنفيذ الاغتيال أو الاستهداف بنسبة نجاح عالية.
2- الاجتماعات الدورية: إن حضور الاجتماعات بصورة مكثّفة، وخصوصاً إذا كانت في أماكن معروفة، يمنح العدو فرصة جمع أكبر قدر من المعلومات عن الهدف، وبالتالي وضع الخطة المناسبة لاستهدافه.
3- سوء استخدام أدوات الاتصال: نحن نعيش اليوم في ظل الثورة الصناعية الخامسة التي حوّلت العالم إلى قرية صغيرة. هذا التطور التكنولوجي، رغم مزاياه المفيدة، إلا أنَّه مليء بالمخاطر والعيوب. ومن هذه العيوب أنه يساهم في تتبع تحركات مستخدميه وتقديم كشف تفصيلي بكل ما يصدر عنهم من تحركات وأقوال وأفعال. وبناء عليه، يصبح استخدم هذه الوسائل من دون معرفة سابقة، ومن دون اتخاذ إجراءات أمنية يشرف عليها مختصون، ثغرة فادحة تودي بصاحبها إلى الهلاك.
4- التقديرات الأمنية الخاطئة: يظن بعض المسؤولين أنَّ لديهم حصانة تحميهم من الاغتيال. هذا الإحساس قد يتولّد من خلال تطمينات تقوم بنقلها جهات ما، سواء محلية أو إقليمية، أو يعتقد البعض الآخر أن العدو مردوع ولا يمكنه تحمّل تداعيات عملية اغتياله. وفي بعض الأحيان، يعتمد الهدف على تقدير موقف خاطئ من محيطه الأمني.
وبناءً على ما تقدم، يمكننا أن نقول إن استخدام "إسرائيل" هذه الطريقة التي تعتمد على عمليات الاغتيال يعتبر سلاحاً ذا حدين، ويمكن أن يؤدي إلى نتائج عكسية على النقيض تماماً مما يسعى إليه العدو الصهيوني، وهذا ما يشير إليه الجنرال والفيلسوف الصيني الشهير، سون تزو، في كتابه الذي يحمل عنوان "فن الحرب"، إذ يقول: "هناك مؤشرات واضحة وصريحة حول أهمية دور القائد العسكري في التأثير في الروح المعنوية لجنوده، وكيف يمكن لمقتل قائد واحد في بعض الأحيان أن يكسر شوكة جيش عملاق، ولكن في المقلب الآخر يمكن لهذا الاغتيال أن يكون حافزاً لرفع الروح المعنوية والقتالية لجنوده المطالبين بالثأر والانتقام".
في الحالة الفلسطينية، ومن خلال مئات التجارب التي عايشناها أو قرأنا عنها، لا يمكننا الحصول على بحث واحد أو تجربة عملية واحدة تثبت أن سياسة الاغتيالات حققت الردع أو ساهمت في تخفيف حدة القتال، بل على العكس من ذلك، ثبت بالدليل القاطع أن هذه السياسة الخرقاء قادت إلى تأجيج واشتعال المقاومة وتوسيع دائرة المنخرطين فيها والمؤيدين لها في صفوف الشعب، وأدت إلى فقدان الجانب المعتدي كثيراً من أسس ومبادئ الأمن التي يبحث عنها، وفقدانه السيطرة التي هو بأمس الحاجة إليها في كثير من الأوقات.