ما الذي يجعل الوصول إلى المسجد الأقصى والصلاة فيه عملا مقاوما؟
وما الذي يجعل شبانا في مقتبل العمر، مستعدين للمخاطرة بالتعرض لإطلاق النار، أو الإصابة الخطيرة، أو الإعتقال، أو حتى الإستشهاد أثناء محاولتهم تسلق جدار الفصل العنصري وارتفاعه ثمانية أمتار، والقفز عنه ليجتازوا حواجز الإحتلال، ويصلوا إلى القدس، ليؤدوا الصلاة في المسجد الأقصى في شهر رمضان ؟
وما الذي يجعل الشباب في القرى والمدن اللفلسطينية، يخرجون بالمئات، وأحيانا بالآلاف ليصدوا دوريات الاحتلال ومدرعاته عندما تقتحم مدنهم وقراهم، وهم يعلمون أن كل واحد منهم يمكن أن يكون شهيدا خلال لحظات من المواجهة؟
وما الذي يدفع الآلاف إلى المشاركة في مظاهرات المقاومة الشعبية ضد الاحتلال والإستيطان، وهم عزل من السلاح في مواجهة جنود ومستعمرين حاقدين مدججين بالسلاح؟
وما الذي يجعل سكان غزة الذين يعانون من نقص الماء والكهرباء وانعدام فرص العمل يتصدون بنجاح، المرة تلو الأخرى، لحروب جيش الاحتلال الهمجية ضدهم، حتى لو اضطروا لحفر مدن كاملة تحت أرض مدنهم لحماية مقاومتهم من أكثر منظومات الطيران والسلاح تطورا في العالم؟
ولماذا يصبح وصول الأطباء والطبيبات والممرضين إلى القرى المهددة في ما تسمى مناطق(ج) لخدمة الفلسطينيين المعرضين للتهجير والتطهير العرقي، عملا مقاوما لدعم صمودهم وبقاءهم؟
ولماذا يصر الأطفال وهم يتسوقون مع عائلاتهم لشراء ملابس العيد، على شراء ألبسة تحمل رموز المقاومة الفلسطينية؟.
هذه أسئلة لن يستطيع ضباط المخابرات الإسرائيلية، وبعض زملائهم من خبراء الدول الغربية، الإجابة عنها، لأنهم بحكم تكوين فكرهم العنصري، سيصرون على البحث عن المحرضين والمنظمين، والإرهابيين المزعومين لتفسير إصرار الفلسطينيين على رفض فتات الاحتلال وإغراءاته، وعلى الإنضواء في أي فعل مقاوم مهما كان بسيطا للخلاص منه.
74 عاما من التطهير العرقي الذي مثلته النكبة عام 1948، و55 عاما من احتلال صار الأطول في التاريخ الحديث، ومنظومة الأبارتهايد العنصرية الإسرائيلية الأسوأ في تاريخ البشرية، لم تنجح في كسر إرادة الفلسطينيين، على تحقيق الحرية والكرامة، والعودة إلى ديارهم، وتقرير مصيرهم فيها.
وما لا يستطيع حكام إسرائيل إدراكه، أنهم أنفسهم ، وسياساتهم تحديدا، المغذي الأكبر لمقاومة الشعب الفلسطيني، وإذا ما أدركوه لن يستطيعوا الاعتراف به، لان الاعتراف به يعني التخلي عن أوهامهم بديمومة الاحتلال ونظام التمييز العنصري.
تماما مثلما يصر المستوطنون الذين يعيشون في بيوت الفلسطينيين المهجرين في القدس ويافا وحيفا، على إنكار أن أولئك الفلسطينيين هم من بنوا تلك البيوت، وعاشوا فيها قبل أن تطأ أقدام المستوطنين أرض فلسطين بعشرات وربما مئات السنين.
عايش الفلسطينيون مراحل عديدة من كفاحهم المتواصل، و مروا بفترات من بيع الأوهام، والترويج لحلول عبر المفاوضات، والوساطات الدولية، وأراد كثيرون منهم أن يصدقوها لأنهم ليسوا هواة المعاناة إلى الأبد، لكن كل التجارب التي مروا بها، مثل إتفاق أوسلو، ومفاوضات كامب ديفيد، وأنابولس،وخريطة الطريق، والرباعية الدولية، أثبتت لهم قطعا أن حكام إسرائيل، وقادة الحركة الصهيونية، لم ولن يقبلوا حلا وسطا مهما كان هزيلا بالنسبة للفلسطينيين، ومهما كان مجحفا بحقوقهم. ولذلك تترسخ القناعة لدى الفلسطينيين صغارا كانوا أو كبارا، بأن مقاومة الاحتلال ونظام الأبارتهايد العنصري، بأي شكل كان، هي السبيل الوحيد للخلاص من عذاباتهم، ومعاناتهم.
ولم يزدهم تنكر أشقاء لهم، وإنضوائهم في التطبيع مع المحتل، إلا قناعة بضرورة الإعتماد على النفس، بدل انتظار المساعدة من الآخرين.
وعزز النفاق العالمي، وازدواجية المعايير التي تجاوزت كل الحدود عند المقارنة بين أوكرانيا وفلسطين، تلك القناعة، بأنه "ما حك جلدك مثل ظفرك".
لم يتعد عدد المشاركين في صلوات التراويح في المسجد الأقصى بضع مئات في سنوات سابقة، عندما لم تكن حواجز الاحتلال بهذه الشدة، ولم تكن قيود الدخول إلى القدس كبيرة. أما اليوم وفي ظل حصار مشدد، و640 حاجزا عسكريا تنتشر في الضفة الغربية ، و جدار فصل عنصري، وإعتقالات وتنكيل وضرب، يصل عدد المشاركين في صلوات ليلة القدر في المسجد الأقصى إلى ربع مليون فلسطيني اخترقوا الحواجز، وتحدوا الاحتلال، لأنهم رأوا في وصولهم للأقصى فعلا مقاوماً للظلم الذي ينخر كل جانب من جوانب حياتهم.
التقيت في غرفة في أحد مستشفيات القدس، ثلاثة مقدسيين جرحى أصيبوا أثناء قمع الاحتلال للمصلين في فجر الجمعة الثانية من شهر رمضان. أولهم كان شيخا مسنا عمره 79 عاما حطمت قذيفة الاحتلال المعدنية الكبيرة التي يسمونها كذبا "رصاصة مطاطية" فكيه والجزء الأيسر من وجهه وأخضع لعملية جراحية معقدة. والثاني كان طفلا في الخامسة عشرة من عمره كسر الاحتلال جمجمته، وأخضع لعملية جراحية بسبب نزف في الدماغ. والثالث كان شابا في الثامنة عشرة من عمره فقد عينه اليسرى، عندما أصيب بالقذيفة المعدنية نفسها.
لم أسمع من أي منهم، أو من أهلهم وأقاربهم الذين كانوا يجتمعون حولهم، شكوى، أو تذمراً، ولم أر في عيونهم سوى سكينة المصمم على مواصلة الطريق، وإرادة يصعب وصف شكيمتها، وتماثلها، بالرغم من أنهم من أجيال مختلفة، وخلفيات متعددة.
قد يُخدع بعض الناس، بتصرفات أقلية منتفعة، أو يائسة، وربما يخدع الاحتلال نفسه، بإنشغال الناس في تدبير لقمة العيش الكريم لأطفالهم، لكنه سيبقى عاجزا عن تفسير الفشل المتكرر لمشاريعه من "السلام الاقتصادي"، إلى "تقليص الصراع"، إلى "التطبيع" بغرض تهميش القضية الفلسطينية، ما دام يجهل، أو يتجاهل، أن الحياة والبقاء في فلسطين أصبحا في حد ذاتهما مقاومة.