ثمة قراءات مختلفة بمستوياتها السياسية والاجتماعية والاقتصادية، حاولت، وما تزال، تحديد توصيفات وتأويلات لنتائج العدوان الصهيوني على قطاع غزة، وما سبقه من انتهاكات لقوات وأجهزة دولة الاحتلال الأمنية في مدينة القدس، التي تواصل انتهاكاتها من أجل خلق واقع احتلالي جديد في المسجد الأقصى، وفي المدينة المقدسة.
ويتركز الجدل حول وضع تصورات لما يمكن أن يحدثه صمود الشعب الفلسطيني على الخارطة السياسية، من مكاسب إستراتيجية كإيقاف الاقتحامات للمسجد الأقصى، ومنع طرد العائلات المهددة بالطرد من حي الشيخ جراح، ووضع حد لتحكم سلطات الاحتلال بالأماكن المقدسة، ومنع الاستفراد بالمدينة وتنفيذ مخططات دولة الاحتلال التهويدية بحقها.
يضاف إلى هذه التصورات، انتفاض الوطن الفلسطيني بأكمله بما في ذلك فلسطينيو الداخل، ما بث مزيداً من الحماسة والزخم في الروح الوطنية الفلسطينية، وأسهم في إعادة الاعتبار للقضية الفلسطينية ووضعها في صدارة الاهتمام الدولي، إلى جانب إحياء حالة التضامن العالمي الكبيرة، وما رافقها من فضح لجرائم الاحتلال وتفنيد أكاذيبه في مختلف أشكال ووسائل الإعلام، ومنها وسائل التواصل الاجتماعي.
وبعد انقشاع غبار المعركة، بإعلان وقف إطلاق النار، تتقدم قراءة المشهد من جوانبه الإنسانية، بدءاً من تقديم الإغاثة العاجلة للمتضررين من الحرب، وحتى آليات إعادة الاعمار للمنازل المدمرة بشكليها الكلي والجزئي، وللمؤسسات في مختلف القطاعات الاقتصادية والصحية والتعليمية، وغيرها، إضافة للبنية التحتية التي طالها جانب كبير من الدمار، والمتهالكة أصلاً نتيجة الحروب والاعتداءات الصهيونية المتكررة، والحصار المتواصل منذ 15 عاماً على قطاع غزة.
ويمكن للمعطيات التي تقدمها مؤسسات حكومية فلسطينية، إلى جانب المنظمات الأممية، أن تعطي تصوراً يقترب من الشمولية، حول أولويات الدعم الإنساني، وطبيعته، وأشكاله، حيث يمكن من خلالها توجيه بوصلة المساعدات، وتنظيم جهود الدول والحكومات والمؤسسات المنخرطة في عملية إعادة الاعمار، وتقديم الدعم الإنساني.
ويمكن استعراض جوانب من هذه المعطيات المهمة، حيث تتجلى في القدس مأساة عائلات جرى طردها من منازلها، وتسكن حالياً بصورة مؤقتة في منازل مستأجرة، إلى جانب الأسر التي ما تزال مهددة بالطرد في حي الشيخ جراح، ناهيك عن التضييق على مئات العائلات بهدف طردها في أحياء عدة كحي البستان، وحي وادي حلوة، وبطن الهوى، وغيرها، إلى جانب المنازل المهددة بالهدم نتيجة حفريات الاحتلال المستمرة.
أما في غزة، فالمعطيات تشير إلى واقع أكثر مأساوية نتيجةً لما راكمته الحروب المتكررة على القطاع، إلى جانب الحصار، وفاقمه بدرجة كبيرة الحرب الأخيرة، التي استمرت 11 يوماً، ضاعفت خلالها من أعداد الشهداء، والجرحى، والمنازل المهدمة، والمؤسسات والمصانع التي تم تدميرها، لتزيد من حجم البطالة الأعلى على مستوى العالم، وتضاعف من فقر وبؤس أهالي القطاع المنكوبين.
فقد أسفر العدوان الوحشي على الأراضي الفلسطينية عن ارتقاء 279 شهيدا، بينهم 69 طفلا، و40 سيدة، و17 مسنا، فيما أدى إلى أكثر من 8900 إصابة، منها 90 صُنفت على أنها "شديدة الخطورة"، ووصفت وكالة (أونروا) تأثيرات ما حدث من عدوان بأنه أعاد قطاع غزة سنوات للوراء.
وفي الجانب الصحي استهدف القصف الإسرائيلي 24 مؤسسة صحية، من بينها 11 مؤسسة تتبع لوزارة الصحة (5 مستشفيات، 6 مراكز صحية)، و13 مؤسسة صحية أهلية، حيث أكد الناطق باسم وزارة الصحة أشرف القدرة الحاجة إلى توفير الدعم المالي الطارئ لوزارة الصحة بغزة بقيمة 46.6 مليون دولار؛ لتمكين تقديم الرعاية الصحية والتخفيف من التداعيات الكارثية التي وصلت إليها المنظومة الصحية، مجدّداً النداء لإنقاذ المنظومة الصحية التي تضررت بفعل سنوات الحصار الإسرائيلي المتواصل والاعتداءات المتكررة.
وتقدر أعداد الوحدات السكنية التي تضررت بسبب الحرب بـ 1700 وحدة، منها 1800 غير صالحة للسكن، بينما تم تدمير 1000 وحدة بشكل كامل، وفي الجانب الاقتصادي بلغت الأضرار 40 مليون دولار للمصانع والمنطقة الصناعية للقطاع ومنشآت صناعية أخرى، حيث تم تدمير 40 مصنعا بشكل كامل، ليحرم مئات العمال من قوت يومهم ويضمهم لطابور البطالة، بالإضافة إلى أضرار بلغت 22 مليون دولار لقطاع الطاقة، فضلاً عن تضرر 46 مدرسة جراء القصف.
أما وزارة الزراعة في غزة فقد قدرت حجم الأضرار في قطاعها بنحو 27 مليون دولار شملت الصوبات الزراعية والأراضي الزراعية ومزارع الدواجن، بينما أكدت الأمم المتحدة ومنظمات إغاثية أن أهالي غزة بات لديهم الآن وصول محدود أو منعدم إلى مرافق المياه، حيث لم يعد ما يقدر بـ 300 ألف من السكان قادرين على الحصول على مياه نظيفة.
وتشير إحداثيات القصف الصهيوني إلى أن جيش الاحتلال تعمّد قصف المصانع والبنية التحتية وقطع الطرق، والبنوك والمؤسسات الحكومية، كما طال القصف الأراضي الزراعية، في ظل صعوبة وصول المزارعين ومربي المواشي لأراضيهم التي تتوزع في المناطق الحدودية بالقطاع.
وحول تداعيات الحرب على الوضع الاقتصادي يقول مدير عام التخطيط بوزارة الاقتصاد والمختص في الشأن الاقتصادي أسامة نوفل، في تصريح صحفي، بأن حجم الخسائر المالية للعدوان كبيرة، مؤكدا بأن "هناك خسائر أخرى غير مباشرة تتمثل في توقف المصانع لعدة أشهر مقبلة بسبب القصف وما يترتب على انقطاع التيار الكهربائي وغيرها".
ويلفت نوفل في تصريحه إلى أن "القطاع الاقتصادي لم يستعد سوى 7% من عافيته بعد حرب عام 2014، مقارنة بما قبلها، في وقت يعيق استمرار فرض الحصار التعافي الاقتصادي والتنمية التي ينبغي الوصول إليها".
أمام هذا الواقع، تفرض المرحلة الحالية بإلحاح الانخراط في عملية تكثيف جهود الإغاثة، والبدء بشكل فوري في عملية إعادة الإعمار، من خلال البحث في إيجاد آليات لجمع أموال المانحين، والسعي للحصول على ضمانات تفرض على الاحتلال عدم عرقلته إدخال مواد البناء، حيث يجب أن تدرج هذه الخطط والجهود في إطار أولى الأولويات، من أجل إعادة بناء ما تهدم، وما ألحقته الحرب الغادرة من أضرار على البشر والشجر والحجر.