«آخر الرؤساء الجمهوريين سيكون ترامب»، هكذا أطلق السيناتور ليندسي غراهام، أحد أقرب حلفاء ترامب، صيحته عندما بدأ عد الأصوات وأعلنت الأرقام غير النهائية هزيمة ترامب بعد الانتخابات، ليدعوه إلى عدم الاعتراف بالهزيمة، ويبدو أن تلك النصيحة المتهورة، التي سار عليها الرئيس الأميركي، ستتحول إلى لعنة على الجمهوريين الذين يحتاجون إلى الكثير من الوقت لترميم عواقب الفضيحة التي أحدثها رئيسهم في الأيام الأخيرة لولايته.
كان ترامب يتصرف سياسياً مثل الأوغاد خلال سنوات حكمه بلا أعراف ولا أخلاق ولا تقاليد ولا ثقافة ولا خبرة، قادماً من عالم المضاربات والمصارعات والملاهي، وكاد أن يتحول إلى تيار سياسي، ولكن بعد الفضيحة الأخيرة «غزوة الكابيتول» تحول ترامب والترامبية إلى نوع من الشتيمة في دولة تملك أفضل دستور في العالم، بل كان لها الذراع الكبرى في صياغة كل دساتير المؤسسات الدولية بعد الحرب العالمية الثانية، ويبدو أن الأمر سيصيب الحزب الجمهوري الذي كان يفقد بفعل عوامل أخرى قوته التنافسية لصالح الديمقراطيين، وهو ما جعل غراهام يطلق صرخته.
الحزب الديمقراطي هو حزب الأقليات، وتشير إحصاءات أميركية إلى أن أبناء الأقليات باتوا أكثر من ثلثي طلاب المدارس والجامعات في الولايات المتحدة، وهو أمر يشير برأي الفزعين من الحزب الجمهوري إلى نهاية عصر، وبات من الواضح أن الجمهوريين فشلوا في استقطاب أصوات تلك الأقليات. فقبل ثماني سنوات عندما فاز باراك أوباما في دورة الإعادة على المرشح ميت رومني، أجرى الحزب الجمهوري تحقيقاً داخلياً عرف بـ «التشريح»، وجدوا فيه أن «رومني» خسر جميع أصوات الجاليات من أصول لاتينية، ودعا التحقيق آنذاك إلى إعادة صياغة خطاب جمهوري جامع إثنياً وعرقياً، لكنه لم يفلح.
التجربة الثانية كانت مع الأصوات اليهودية، حيث فعل الجمهوريون وترامب ما لم يفعله أي رئيس آخر لإسرائيل وتفاخر هو وصهره بذلك، والنتيجة أن حوالى 70% من يهود الولايات المتحدة صوتوا لصالح المرشح الديمقراطي جو بايدن، وهو ما أحدث صدمة في إسرائيل لأنها تقرأ المسألة بمدى تراجع اهتمام إسرائيل في أولويات الجالية هناك حين يساهمون بإسقاط رئيس كان الأقرب لتل أبيب، وهو ما أضاء الأضواء الحمر لدى مراكز البحث وصانعي السياسة، وتلك قصة أخرى.
لكن غزوة الكابيتول التي أصابت الجميع بالدهشة وأخضعت للعديد من التحليلات، سواء على صعيد سلوك رئيس فاقد للأهلية وهذا ينسحب على ما فعله خلال السنوات الأربع الماضية من خراب على مستوى الولايات المتحدة والعالم، أو على صعيد الديمقراطية الأميركية التي تمكنت ببساطة كدولة دستورية من احتواء الموقف خلال ساعات، بعد أن سمحت للمتظاهرين بالدخول واحتلال الكونغرس والعبث به والانسحاب بهدوء. وإن كان هناك شك بأن الدولة العميقة كانت قد أرغمت ترامب على دعوة مؤيديه للانسحاب في تلك الليلة التي ستظل ندبة في التاريخ الأميركي، أو سلوك الجمهوريين الذين انتموا للدستور وانتموا للدولة وليس لرئيس الحزب كما ثقافة القبيلة السياسية لدى العرب.
كيف انتخب الأميركيون رئيساً بهذا القدر من السوء؟ كان هذا السؤال الذي تكثف مع ليلة اجتياح الكونغرس، وإن لم يغب طوال سنوات حكم رئيس على هذه الدرجة من الجهل والاستهتار رغم تاريخه المعروف بالاحتيال والكذب والفوضى والمحاكم. لكن في تلك الليلة كان الأمر صادماً، وهي الليلة التي جاءت كدليل متأخر على انعدام أهليته العقلية لممارسة الحكم. وبكل أسف قد جاء الدليل متأخراً حيث لم يعد هناك متسع من الوقت لعزله ومحاكمته كأحد لصوص التاريخ الذين تسللوا في ظلمة السياسة.
انتهت الترامبية على يد مؤسسها كحالة اختلف المراقبون في تفسيرها كظاهرة. هل كانت ردة فعل على العولمة وبلوغ الرأسمالية ذروتها، أم كانت حالة من عنصرية الأبيض وردة فعل على الشعور بتراجع الأقلية الآخذة بالانحسار بعد وصول الرئيس الأفريقي الأميركي باراك أوباما، وهو ما جسده شعار ترامب «استعادة أميركا» منذ دعايته الانتخابية وأعاد تكرارها في خطاب التنصيب، أم حالة قومية عنصرية اجتاحت تلك الدولة، أو ربما كانت خليطاً من كل ذلك؟
في كل الظروف، كانت ليلة الغزوة هي ذلك الحدث التاريخي الذي أسدل الستار على تلك الظاهرة، وأعاد إيقاف التاريخ على قدميه، بعد أن وقف على رأسه أربع سنوات كانت شديدة الكلفة على أميركا والعالم.
في كتابه «أميركا تتجه نحو العولمة»، كتب ستانلي كارنوف عن الرئيس الخامس عشر للولايات المتحدة ويليام ماكينلي، رجل الأعمال الذي جاء إلى السياسة من عالم المال والعقارات، أنه كان رجلاً قليل الخبرة والثقافة والسياسة، وأحاط نفسه بمستشارين يقودون كل شيء. وأورد كارنوف نكتة شاعت في فترة حكمه نهايات القرن التاسع عشر، بسؤال كان يتردد بين العامة وهو: كيف يتشابه عقل الرئيس ماكينلي وسريره؟ وكان الجواب أن كليهما لا بد أن يرتبه أحد قبل أن يستخدمه، تماماً كما ترامب. ولسوء حظ الفلسطينيين كان نتنياهو من تكفل بترتيب عقل الرئيس الأميركي قبل الاستخدام تاركاً لغيره ترتيب سريره.
لقد وقف التاريخ مراراً في عهد ترامب - نتنياهو عند حافة الهاوية، ونجا من حرب عالمية ثالثة أو حروب أخرى مع كوريا الشمالية أو الصين أو إيران. ففي عهد ترامب كان عود الثقاب بجانب مستودع البارود، ويبدو أن مصادفات الأقدار وحدها كانت تتكفل بمشاغلة الرئيس وترويض جموحه، وربما يبدو أن الوباء الذي اجتاح البشرية في العام الأخير لم يكن بذلك السوء، فقد أطفأ عود الثقاب وأزاح جيوش الحرب جانباً لصالح جيوش الصحة، ولم يشاغل الرئيس فقط بل أودعه في مستودعات التاريخ هو وظاهرته.
جاء ترامب بشعار «عودة أميركا عظيمة مجدداً»، لكنه يغادر بعد أن طعن أميركا في روحها تاركاً لورثته في الدولة والحزب الجمهوري ترميم ما تكسر من ولايته الصاخبة، فقد اعتدى على الدستور والقانون وهو الرابط الوحيد في بلاد تشكلت من مجموعات من المهاجرين بلا أرضية مشتركة وطنية أو تاريخية أو عقائدية دينية، لذا فإن المساس بالدستور والقانون هو إضعاف لروح أميركا. أما على المستوى الدولي، فإن أميركا كانت تتراجع بفعل حركة التاريخ التي لم تحفظ لأي امبراطورية تفوقها، فتلك طبيعة التاريخ وعندما تصل الأشياء إلى الذرى تكون قد استنزفت كل قوتها لتبدأ بالنزول، كانت الصين تتقدم والعالم يتغير. صحيح أن الولايات المتحدة الأقوى مالياً وتكنولوجياً وعسكرياً، ولكن ظهر من ينافسها على الريادة وتلك مسألة طبيعية في مسار التاريخ الذي لا يتوقف عن الجريان.
وبدلاً من «أميركا عظيمة»، فإن أميركا الآن جريحة وتحتاج إلى سنوات لمعالجة روحها وذاتها، أما الحزب الجمهوري سيحمل ولاية ترامب ندبة في تاريخه ولن تفارقه. لقد كان ترامب لحظة ساخرة وحزينة في آن يسخر فيها التاريخ من البشر ويبدي قدراً من الحزن، ويمر تاركاً هذا القدر من الضحايا عندما يمر في لحظة جنون. وحين يكون عنوانها أقوى دولة في العالم تكون السخرية أشد...!!!