فُجعنا يوم الجمعة الماضي باستشهاد المسعفة الباسلة في الإغاثة الطبية الفلسطينية رزان النجار برصاص الاحتلال المجرم وهي تقدم الاسعاف لجرحى مسيرة العودة، و جُرح الى جانبها بالرصاص الحي ثلاثة آخرون من مسعفي الاغاثة الطبية و مائة جريح آخر.
و ذلك بعد أن إضطر ليبرمان وزبانيته لإبتلاع تهديداتهم ووعيدهم وقبلوا بالعودة إلى حالة التهدئة العسكرية في غزة، لأنهم يخشون شن حرب شاملة، وبعد أن أيقنوا أن إستفزازاتهم لم تفلح في إخفاء الصورة البشعة لجيشهم الذي يطلق قناصته الرصاص الحي والمتفجر على المتظاهرين السلميين، و بعد ان صار واضحا أن ألاعيبهم فشلت في كسر المقاومة الشعبية التي ستواصل النهوض بأشكال مختلفة، و بعد أن اصبحت صورة شهيدة الانسانية رزان النجار وثيقة إدانة لحكام اسرائيل و كل من يدعمها ويتستر على سياساتها الإجرامية ضد الفلسطينيين.
ومرة أخرى، تحمل أهل غزة البواسل العبء الثقيل للتصدي للاحتلال وإعتداءاته، رغم الظروف القاسية التي يعيشونها.
في غزة يعاني الناس الأمرين، فالحصار الإسرائيلي الخانق يوشك على إنهاء عامه الثاني عشر، والاحتلال ما زال قائما براً وبحراً وجواً.
في غزة لا يحصل الناس على الكهرباء إلا لأربع ساعات يوميا، قد تصلهم في النهار أو في منتصف الليل.
خمس وتسعون بالمئة من مياه غزة ملوثة أو مالحة، وسبعون بالمئة من شواطئها أصبحت ملوثة بمياه المجاري.
أما صيادو غزة فلا يسمح لهم بالإبحار لأعمق من ستة أميال، وإن حققوا صيدا هزيلا فسيكون في مياه ملوثة.
بيوت كثيرة لا تستطيع الحصول حتى على المياه المالحة، لأنها تفتقد للكهرباء اللازمة لضخ المياه لبيوتها العالية.
ثمانون بالمئة من خريجي الجامعات، وهي جامعات ممتازة بالمعايير العلمية و الأكاديمية، عاطلون عن العمل.
يقول لنا موظفو القطاع الأهلي والخاص، الذين ما زالوا يحصلون على رواتبهم، أن كل واحد منهم اصبح مسؤولا عن إعالة أربع أوخمس عائلات ممن إنقطعت رواتبهم.
التجارة إنهارت، والأعمال تنهار، أما النقود فقد إنطبق عليها حرفيا تعبير أنها غدت "عملة نادرة".
أنا أريد أن يتخيل كل من يقرأ هذا المقال، أنه يعيش في قطاع غزة : لا ماء نظيف ولا كهرباء، لا دفء في الشتاء القارس ولا تهوية في الصيف القائظ، ولا علاج مناسب في الوقت المناسب، ولا حق في السفر حتى لو كان للعلاج أو للدراسة أو للقاء الأحبة، وأقارب كثيرون يطلبون المساعدة ولو في توفير بضعة أرغفة لأطفالهم الجائعين، البحر ملوث والهواء ملوث، والتربة ملوثة، والناس تتساءل إلى متى؟
ولا حاجة لإطلاق مزيد من الخيال، اذ يكفى أن يتصور كل واحد منكم أنه يعيش في سجن محكم الإغلاق، مع فرق أساسي عن السجون العادية، إذ أن باحة غزة السجن مفتوحة للقصف بالطائرات، ومن السفن، وبقذائف المدفعية و الدبابات كلما أراد الإحتلال.
هل يقبل أي إنسان منكم أن يرى طفلة أو طفلته تعاني مرضا مستعصيا وهو عاجز عن توفير الدواء لها، أو عن التخفيف من آلامها، أوعن نقلها لمستشفى يعالج سرطانا أصابها، لا سمح الله.
لا شك أن أسوأ أنواع الأسى هو الشعور بالعجز أمام معاناة طفل أو طفلة، أوشخص نحبه ونعجز عن مساعدته، وهو أسى لا أتمناه لأحد.
موضوعيا، وبعيدا عن التحزب والإنقسام والتعصب، فإن كل إنسان عاقل يدرك هدف السياسة الإسرائيلية وأعوانها وداعميها تجاه قطاع غزة.
إنهم يريدون فصل غزة عن الضفة والقدس بأي ثمن، أولاً للتخلص من الثقل الديموغرافي لمليوني فلسطيني يعيشون هناك، وثانياً لتسهيل إبتلاع وضم الضفة الغربية و تهويدها، وثالثاً لمنع قيام دولة فلسطينية مستقلة ولتكريس منظومة الاحتلال والتهويد والتمييز العنصري.
وهم يريدون بقاء الفصل والإنقسام كي تنشغل معظم الطاقات و القوى الفلسطينية عن الاحتلال بالصراعات الداخلية، وبالإنقسامات المحزنة، ولأن الفصل بين غزة والضفة هو الشرط الممهد لتمرير مخططات صفقة القرن في تصفية القضية الفلسطينية.
وإذا وقعت الواقعة وحقق حكام إسرائيل أهدافهم، فإن أجيال المستقبل لن تتوقف أمام التفاصيل بالتساؤل عمن كان مسؤولا، أومن لم يكن، بل ستحمل جيلنا بكامله مسؤولية الكارثة.
ولهذا فإن إنقاذ غزة وأهل غزة من معاناتهم أصبح واجب الجميع، ولأن إنقاذ غزة صار شرطا لإنقاذ فلسطين، ومستقبل فلسطين.
ولا حاجة لمزيد من الكلام.