كثراً ما تردد أن وعد بلفور كان بمثابة "وعد من لا يملك لمن لا يستحق"، فهل كان فعلا كذلك؟ للإجابة على هذا التساؤل دعونا نعد بالذاكرة إلى الوراء لنعرف حقيقة ذلك "الوعد" وكيف سارت الأحداث حتى تمكن اليهود من فلسطين بهذا الشكل الذي هو عليه اليوم، في 2 نوفمبر1917 أصدر جيمس بلفور وزير الخارجية في بريطانيا تصريحاً مكتوباً وجهه باسم الحكومة البريطانية إلى اللورد ليونيل والتر روتشيلد "الصهيوني النشط والصديق الحميم لحاييم وايزمان"، يتعهد فيه بإنشاء "وطن قومي للشعب اليهودي في فلسطين"، واشتهر التصريح باسم "وعد بلفور".
في 9 نوفمبر1917 دخل قائد القوات البريطانية الجنرال إدموند اللنبي مدينة القدس، وقد أثار ذلك مشاعر الابتهاج في أوروبا وأمريكا إذ وقعت القدس لأول مرةٍ تحت سيطرة الصليبيين مرة أخرى منذ أكتوبر1187 بعد تحريرها منهم على يد القائد صلاح الدين الأيوبي، حيث أطلقت الامبراطورية البريطانية على المعركة اسم "عملية القدس"، في استحضار واضح للبعد التاريخي من خلال تسمية المعركة باسم المدينة المقدسة التي انتهت باستسلام القدس واحتلال الإمبراطورية البريطانية لفلسطين والقدس.
لم تدر القوات البريطانية فلسطين بنفس الكيفية التي أدارت بها مصر أو الهند أو أياً من الأراضي التي كانت تسيطر عليها، وإنما عمدت الى إحداث تغييرات سريعة في نظم الإدارة الرسمية، حيث أورد "رونالد ستورس" أولُ حاكمٍ بريطاني للقدسِ في مذكراته أن القوات البريطانية أدخلت اللغة العبرية إلى المخاطبات الرسمية حيث طبع الإعلان الأول للجنرال اللنبي بالإنجليزية والعبرية والعربية ومن ثم كافة المراسلات الحكومية الرسمية ، واستخدمتْ العبرية في لافتات الإدارة الحكومية، وما لبثت أن أضيفت على عجلٍ على إيصالات البلدية والإيصالات الرسمية الأخرى، وعُين موظفون ومترجمون يهود في المكاتب الحكومية الرسمية.
نخلص مما سبق إلى أن بفلور لم يعط وعداً أجوفاً أو وعد من لا يملك كما يقال بل إنه أعطي قراراً بلغة المتمكن القادر على تنفيذ قراره، فلقد أصدر بلفور هذا التصريح والقوات البريطانية على أعتاب القدس تتجهز لشن حملتها على المدينة المقدسة لاحتلالها وتحديداً قبل بدأ المعركة بخمسة أيام فقط، وكانت نتيجة المعركة معروفة سلفاً نظراً لتفوق القوات البريطانية الكاسح أمام نظيرتها العثمانية التي كانت تعاني نقصاً شديداً في التسليح والذخائر وشح الامدادات علاوة على الخيانة التي تعرضت لها من القبائل العربية الموالية للقوات البريطانية، ولذلك أعتقد بضرورة تصحيح المفهوم التاريخي "لتصريح بلفور" حيث كنا نردد دائما أنه "وعد" من وزير خارجية بريطانيا لليهود بإنشاء وطن قومي لهم في فلسطين، وهذا المفهوم دفعنا للاعتقاد بأن بلفور قام بعمل دبلوماسي ليس له أبعاد تنفيذية على الأرض.
وهنا يكمن الخطأ التاريخي من وجهة نظري، فتصرف بلفور لم يكن مجرد "وعد"، وإنما كان قراراً سياسياً استراتيجياً في شكل تصريح صادر من أعلى هيئة رسمية بريطانية مصحوبا بعمل عسكري ميداني على الأرض، حتى أن نص "الوعد الشهير" لا يوجد فيه كلمة "وعد" من الأساس ، واسمحوا لي أن أنقل نص التصريح حرفيا حتى يظهر جلياً أنه لم يكن "وعداً" وانما قراراً سياسياً مدعوماً بالقوة العسكرية على الأرض، واليكم نص رسالة بلفور إلى روتشيلد (عزيزي اللورد روتشيلد، يسرني جدا أن أبلغكم بالنيابة عن حكومة جلالته، التصريح التالي الذي ينطوي على العطف على أماني اليهود والصهيونية، وقد عرض على الوزارة وأقرته:
“إن حكومة صاحب الجلالة تنظر بعين العطف إلى تأسيس وطن قومي للشعب اليهودي في فلسطين، وستبذل غاية جهدها لتسهيل تحقيق هذه الغاية، على أن يفهم جليا أنه لن يؤتى بعمل من شأنه أن ينتقص من الحقوق المدنية والدينية التي تتمتع بها الطوائف غير اليهودية المقيمة الآن في فلسطين ولا الحقوق أو الوضع السياسي الذي يتمتع به اليهود في البلدان الأخرى”.
وسأكون ممتنا إذا ما أحطتم الاتحاد الصهيوني علما بهذا التصريح.
(المخلص/آرثر بلفور)
يظهر جلياً من النص أن بلفور أعلم روتشيلد بالإرادة الملكية "التي تمثل أعلى هيئة سياسية في بريطانيا" الذي أقرته الوزارة "التي تعد الأداة التنفيذية للإرادة الملكية"، وهذه الإرادة الملكية البريطانية بمثابة قرار بتأسيس وطن قومي لليهود في فلسطين، ومعني كلمة وطن قومي أي قطعة أرض يقطن عليها شعب يحكم من قبل هيئة حاكمة، وهي تماماً مقومات الدولة وفقا لقانون الدولي.
توصيف تصرف وإجراءات الحكومة البريطانية في ذلك الوقت على انها "مجرد وعد" من وجهة نظري خطأ تاريخي وقعنا فيه كفلسطينيين وعرب، وأظنه كان يهدف إلى تخفيف وطأة الجريمة التاريخية التي ارتكبتها بريطانيا بحق الشعب الفلسطيني، فبريطانيا حلت بقوة السلاح محل القوات العثمانية التي كانت هي السلطة الحاكمة في فلسطين، وبهذا الحلول أصبحت بريطانيا هي المتصرف الفعلي والجهة التي تملك القرار السياسي والقانوني في فلسطين، صحيح أن كل إجراءات بريطانيا في هذا الصدد باطلة وخروجا على كل القيم والأعراف والقوانين الدولية، لكنها مارست سلطتها على فلسطين من خلال حكم عسكري امتد ثلاث سنوات إلي أن صدر قرار عصبة الأمم بانتداب بريطانيا على فلسطين.
حيث أصرّت الحكومة البريطانية (وكان ونستون تشرشل فيها وزيراً للمستعمرات) على إدراج تصريح بلفور في صك الانتداب على فلسطين لتصبحَ السياسةُ البريطانيةُ بتأسيس الوطن القومي لليهود في فلسطين "تحظى بغطاءٍ دولي"، وعيّنت أول مندوبٍ سامٍ لها هربرت صموئيل الوزير البريطاني السابق واليهودي الذي دخل ابنه القدس متطوعاً مع الفيلق اليهودي في حملة الجنرال اللبني، ومارست خلال فترة حكمها لفلسطين الذي امتد ثلاثين عاما كل ما من شأنه أن يمكن اليهود من فلسطين إلى أن وصلنا إلى الواقع الذي نعيشه اليوم، ورغم مرور قرن من الزمان على الجريمة التي ارتكبتها بريطانيا، ستبقى هذه الإجراءات والتصرفات التي قامت بها بريطانيا باطلة وما بني عليها باطل، وما مر بشعبنا من نكبة ونكسة وتهجير وحصار وتشريد وقتل كلي.