يتأثر الاقتصاد الفلسطيني بشكل كبير ومتراكم بالعديد من الإجراءات والسياسات الإسرائيلية، في مقدمتها مصادرة الأراضي، الاستيطان، الحصار، الإغلاق، تقييد حركة الأشخاص والسلع داخل المناطق الفلسطينية ومع العالم الخارجي، وتعطيل الإصلاح الاقتصادي. حيث عاد الحديث عن مشروع الضم لمنطقة الأغوار مجدداً بالتزامن مع خطوات أميركية لتهيئة الأجواء لفرض رؤيتها لحل الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي في إطار ما بات يُعرف بـ «صفقة القرن»، بدءاً بالاعتراف بالقدس عاصمة لـ«إسرائيل» ونقل السفارة الأميركية إليها، مروراً بإيقاف الدعم الأميركي للأونروا ، ثم اعلان الشق الاقتصادي لـ«صفقة القرن» والتي كان من بنودها فرض السيادة الإسرائيلية على منطقة الأغوار، ومن ثم تصريحات وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو التي لا ترى في الاستيطان انتهاكاً للقانون الدولي باعتبار الضفة تخضع للسيطرة الإسرائيلية وليست أراضٍ محتلة.
الرؤية الأميركية تعد شرعنة للوقائع التي فرضتها دولة الاحتلال على الأرض وتواصل فرضها لنهب مزيد من الأرض الفلسطينية بالاستيطان والتهويد، رغم غياب الاجماع الدولي على رؤية ترمب ورفض مشروع الضم.
تحاول الإدارة الأميركية الترويج لرؤيتها من خلال التركيز على المنافع ما تدعيه الاقتصادية التي ستجلبها للاقتصاد الفلسطيني كمدخل لحل الصراع العربي- الاسرائيلي متجاهلة الحقوق السياسية للصراع. وفي الواقع فإن تطبيق هذه الرؤية يسعى لتدمير الاقتصاد الفلسطيني من خلال حرمان الفلسطينيين من السيطرة على مفاتيح الإدارة الاقتصادية وحصارهم في معازل والسيطرة على المعابر وحركة البضائع والأشخاص.
وعود خبيثة
اللافت أن ورشة البحرين الاقتصادية رصدت 27 مليار دولار لتمويل الخطة الأميركية جزء كبير منها هو قروض، من خلال تحقيق عدة أهداف منها: مضاعفة الناتج المحلي، خلق مليون فرصة عمل، وخفض البطالة إلى أقل من 10% والفقر بنسبة 50% ، فيما غض الجانب الأمريكي البصر عن أن الناتج المحلي في الظروف الحالية الصعبة تضاعف من 7 مليار دولار عام 2008 إلى 15,8 مليار عام 2019، علماً أن تقرير الأونكتاد يؤكد خسارة الاقتصاد الفلسطيني 35% من الناتج المحلي نتيجة القيود الإسرائيلية، فيما معدل الدخل من الناتج ازداد من 1800 دولار عام 2008 إلى 3365 دولار عام 2019 موزعاً بين 4802 دولاراً بالضفة و1417 دولاراً في غزة. أما عن خلق مليون فرصة عمل فهو بحاجة إلى السيطرة على المعابر وحرية حركة البضائع والعمال، أما عن خفض الفقر بنسبة 50% فهو أهداف خيالية تحاول الإدارة الأمريكية وضعها في قالب جذاب لرأس المال العربي والعالمي.
شجعت الخطوات الأمريكية الحكومة الإسرائيلية لتمرير أطماعها في تنفيذ مشروع الضم لمنطقة الأغوار، وخاصة مع تشكيل الحكومة الإسرائيلية الجديدة باتفاق بين رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ومنافسه بيني غانتس، تضمن الاتفاق البدء في تطبيق الضم الفعلي لما نسبته 30% من أراضي الضفة الغربية، بما فيها مستوطنات الضفة الغربية إلى إسرائيل وبما يشمل البؤر والتجمعات الاستيطانية في قلب المناطق الفلسطينية، وهذا يعني تقطيع التواصل الجغرافي للضفة الغربية ومصادرة الأراضي التي يمكن أن تستوعب الزيادة السكانية الفلسطينية مستقبلاً، فيما يتم تواصل المدن والتجمعات السكانية التي هي أشبه بـ«معازل» مع بعضها عبر شبكة طرق تسيطر عليها سلطات الاحتلال، بدواع أمنية، إضافة إلى التحكم بحركة البضائع والأشخاص من وإلى «الدولة» الفلسطينية.
تشكِّل مساحة المستوطنات نحو 10% من مساحة الضفة الغربية، يضاف إليها أكثر من مليون ونصف مليون دونم هي مناطق نفوذ المجالس الإقليمية للمستوطنات تشمل مناطق واسعة لا تدخل في منطقة عمران أيٍّ من المستوطنات تبلغ مساحة الأراضي الواقعة تحت سيطرة المستوطنات مباشرة نحو 63% من مساحة مناطق (ج)، وتحظر إسرائيل على الفلسطينيين دخول أو استغلال هذه المناطق الشاسعة دون تصاريح مسبقة من قوات الاحتلال. وعلى العكس من السياسة المتشددة التي تتبعها إسرائيل في تقييد بناء الفلسطينيين في هذه المناطق ومن أوامر الهدم على نطاق واسع تحظى المستوطنات بالدعم الحكومي الكامل وتستفيد من البنية التحتية المتطورة التي توفرها الحكومة الإسرائيلية وذلك من اجل زيادة عدد المستوطنين على حساب السكان الفلسطينيين.
الأغوار بالأرقام
إن عملية الضم الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية (منطقة الأغوار ومستوطنات الضفة الغربية) تشمل 43 قرية وتجمعًا فلسطينيًا في عدة محافظات في الضفة الغربية، من الأغوار إلى شمال غرب القدس وغرب رام الله، يعيش في هذه المناطق 106 آلاف فلسطيني. تتمتع الأغوار بأهمية اقتصادية وسياسية في فلسطين نذكر أن مساحة الأغوار 720 ألف دونم، تمتد الأغوار جغرافيا من بلدة بيسان جنوبا حتى صفد شمالًا، ومن عين جدي حتى النقب جنوبا، ومن منتصف نهر الأردن حتى السفوح الشرقية للضفة الغربية غربًا، أما مساحة الأراضي الزراعية فهي 280 ألف دونم، وهي 38,8% من المساحة الكلية للأغوار يسيطر المستوطنون على 27 ألف دونم من الأراضي الزراعية فيها.
يسيطر الاحتلال الإسرائيلي على 400 ألف دونم في منطقة الأغوار بذريعة استخدامها مناطق عسكرية مغلقة تشكل هذه المناطق ما نسبته 55,5% من المساحة الكلية للأغوار، كما ويحظر الاحتلال الإسرائيلي على السكان الفلسطينيين ممارسة أي نشاط زراعي أو عمراني أو أي نشاط آخر في هذه المناطق.
من المؤكد أن خطة الضم ستؤثر اقتصادياً على فلسطين لأنها تتعلق بالأرض الفلسطينية وما يرتبط بها من موارد، فالأثر سيتجاوز بكثير مصادرة الأراضي والسيطرة على مواردها بل سيكون له العديد من التبعات الاقتصادية والمالية أيضاً، حيث انقطاعات شاملة وعديدة ستتأثر بخطة الضم، أهمها مصادرة (30%) من الأرض في الأغوار سلة فلسطين الغذائية، وضم المستوطنات الكبرى بمساحات أخرى. ذات المياه الجوفية العذبة والصالحة للزراعة، على الرغم من أن الاحتلال الإسرائيلي أقام فوقها العديد من المستوطنات، إلا أن تحويل سيادتها بالكامل لإسرائيل يعني خسارة جديدة وتحكم جديد من قبل إسرائيل بمورد هام من الموارد الفلسطينية عامة والأمن الغذائي للفلسطينيين خاصة.
أرباح وخسائر بالمليارات
إلى جانب ما سبق تواصل إسرائيل سيطرتها المتدرجة على مصادر المياه الجوفية وحوض نهر الأردن الذي يعتبر مورد مائي هام للشعب الفلسطيني، والهيمنة على الموارد الطبيعية وخنق الأمن الغذائي للضفة بالكامل، وسلب الشعب الفلسطيني نسبة كبيرة ومهمة من الأرض الزراعية والمراعي المنتجة والحاضنة للثروة النباتية والحيوانية والمائية التي تشكل بعدا حيويا للأمن الغذائي والاقتصادي في فلسطين، لذا أن انتقال السيادة الكاملة في الغذاء لإسرائيل يزيد عبء المستهلك الفلسطيني.
من اللافت أن تهجير سكان 50 ألف دونم من الفلسطينيين من أصل 720 ألف دونم معظمها تحت السيادة الإسرائيلية الكاملة، وربح 35 مستوطنة بالأغوار بقرابة 10 مليار دولار وفقا لتقديرات مجلس المستوطنات في الاغوار، فإن عوائد استغلال المستوطنين للأغوار تصل سنويا إلى 650 – 750 مليون دولار وهذا الرقم اعلى من مجمل الصادرات الفلسطينية إلى الاسواق الاسرائيلية سنوياً.
فضلاً عن البحر الميت الذي يعتبر معلماً سياحياً ومورداً اقتصادياً وميزة استراتيجية للاستثمار، هذا مصدر دخل مفترض مستقبلاً تحوّل لخزينة الاحتلال، حيث يحفل بالكثير من المعادن الثمينة، في مقدمتها مخزونات ضخمة من البوتاس والبرومين، وتحصل إسرائيل والأردن معاً على نحو 4,2 مليار دولار من المبيعات السنوية لهذه المنتجات، وهو ما يمثل 6% من الإمدادات العالمية من البوتاس و73% من إنتاج العالم من البرومين وبحسب تقديرات البنك الدولي، فإن الاقتصاد الفلسطيني بمقدوره أن يضيف 918 مليون دولار سنوياً، إذا أتيحت له الفرصة من استغلال المعادن الثمينة في البحر الميت.
وتقيم إسرائيل على 37 كيلو متر على شواطئ البحر الميت، 3 منتجعات سياحية تدّر عليها عائدات كبيرة وتحرم الفلسطينيين من القيام بأية استثمارات من أي نوع كان على البحر الميت. إضافة إلى ذلك إن السياحة في البحر الميت من شأنها أن تدّر 126 مليون دولار سنوياً إذا ما تم رفع القيود الإسرائيلية عن تلك المنطقة، وأتيح للفلسطينيين الاستثمار السياحي فيها.
أيضاً هناك مصادر طبيعية أخرى تتمتع بها منطقة الأغوار الفلسطينية حيث وجود مقالع للحجر والرخام وفق تقرير البنك الدولي (2013)، فإن مساحة الأراضي التي تصلح لاستخدامها كمقالع للحجر والرخام في تلك المنطقة تقدر بنحو 21 ألف دونم. وتظهر الإحصاءات الخاصة بصناعة الحجر في فلسطين أن الكسارات الإسرائيلية غير الشرعية التي تعمل في منطقة الأغوار تنتج ما يقارب 15,5 مليون طن تقدر قيمتها بـ 105 ملايين دولار. فيما تبلغ الخسائر السنوية للفلسطينيين في الأغوار وفق تقديرات متطابقة بما فيها تقديرات البنك الدولي نحو 3,4 مليار دولار سنوياً نتيجة سيطرة الاحتلال على مصادر الثروة في الاغوار بما فيها مصادر الثروة في البحر الميت ومنع الفلسطينيين من الوصول إلى هذه المصادر.
«دولة» بلا تنمية
إن مشروع الضم الإسرائيلي لمنطقة الأغوار وفرض السيادة على المستوطنات المحيطة في مدينة القدس، يحرم الفلسطينيين من استغلال أرضهم ومواردهم الطبيعية ويحرمهم من حق العمل في أراضيهم، الأمر الذي يشكل انتهاكاً صريحاً لجملة من الحقوق التي يحميها العهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، أهمها الحق في التنمية، يتمثل في عدم السماح للمزارعين الفلسطينيين والمستثمرين أيضاً باستخدام الأرض والعمل فيها والانتفاع منها، وهو العنصر الأساسي للتنمية، بضمان الانتفاع من الأرض واستخدامها كعامل أساسي لضمان التمتع بحقوق الإنسان، بما فيها الحق في العمل للفلسطينيين الذين يعيشون في تلك المنطقة والذين يعتمدون على النشاط الزراعي في الأرض التي يملكونها، وعليه فإن الضم الإسرائيلي لتلك المنطقة سيؤدي إلى مصادرة الأرض وتقييد أصحابها من الوصول إليها، سيؤدي إلى عدم قدرة الفلسطينيين على العمل وكسب لقمة عيشهم من أراضيهم الزراعية.
لذا نؤكد رفضنا لجريمة الضم التي تعتبر تدميراً لحقوق الفلسطينيين، وأن عدم مساءلة ومحاكمة الاحتلال وحرمان الشعب الفلسطيني من الحماية يعني المزيد من القمع والظلم والتدمير في جميع مناحي الحياة المختلفة، إن جريمة الضم تتعدى الآثار الاقتصادية ولها أبعاد سياسية عديدة أهمها، أن أي دولة فلسطينية مستقبلية تتمتع بموارد اقتصادية تدعم استمرارها وسكانها، ستجد أمامها بفعل تلك الجريمة مشروع دولة ضيق المساحة كثيف السكان مما يضعف اقامتها.