عقود ولم تنطفئ جذوة القضية الفلسطينية، وقد خابت آمال كل الذين راهنوا على فقدان ذاكرة الأجيال الجديدة، فمن جنين الصمود مروراً بالصعود نحو جبال القدس لمن خلعوا بواباتها الحديدية بأظافرهم، وصولاً إلى غزة التي تبكي بصمت وتتمرد بكل ما تملكه من فائض إرادة ضد مخططات العصر وتصفية القضية، ها هو الجيل الجديد ينتفض منذ أكثر من أسبوع على بواباتها الشرقية للمطالبة بحق العودة.

إن قيمة ما تفعله غزة بكل الثمن الكبير المدفوع وبما يتناثر من  لحم ودم هو أنها تنتفض في وجه إسرائيل التي تتحضر بغطرسة للاحتفال بالذكرى السبعين لإقامتها، وهي في الحقيقة تجهر للاحتفالات بنشوة تصفية القضية الفلسطينية، مسلحة بإدارة أميركية تنفذ برنامجاً إسرائيلياً بامتياز، وهنا تأتي مصادفات التاريخ المدهشة من تلك المنطقة الصغيرة والفقيرة تعاكس كل الرياح السياسية الغاشمة وتفاجئنا من جديد.

لكن يبدو أن هذه المفاجأة وهي التي تبدو للحظة مخرجنا الوحيد أمام الانسداد الهائل الذي تتعرض له القضية وأدواتها العاجزة عن تحقيق تقدم على صعيد المشروع الوطني الذي يتعرض للانحسار في السنوات الأخيرة، يظهر أنها تتأثر بالانقسام الذي يمنع حتى الآن تبنيها بشكل رسمي من قبل القوى السياسية والنظام السياسي الفلسطيني، وتلك واحدة من القضايا التي تشكل عاملاً من عوامل إضعافها.

وإذا ما اصطلح على تسمية ما يحدث على الحدود بالهبة؛ لأنها أكبر من مسيرة كالتي اعتدنا أن نرى نهايتها، وبات واضحاً أنها مستمرة، فإن تلك الهبة تبدو يتيمة حيث يتحرك الشارع الفلسطيني بلا تبني لهذه الحركة، فحركة «حماس» تراجعت للخلف عن صدارة المشهد حتى لا تبدو أنها من يتحمل المسؤولية ولنفي محاولات إسرائيل تحميلها  لها ولأن الشارع ذهب أبعد من تخطيط الفصائل، وقد ظهر ذلك، أول من أمس، عندما أعلنت القوى أن يوم الجمعة ستكون جمعة تأبين الشهداء، بينما فرض الشارع برنامجه وجعلها «جمعة الكاوتشوك» أي الإطارات، وقد نفذ ذلك.

على الجانب الآخر، حيث السلطة التي تبدو كأنه لا علاقة بما يحدث رغم أن الحدث على حدود غزة من الممكن أن يصب سياسياً في جيبها كدليل على انعدام أفق التسوية، وأن هذه النتائج الطبيعية للسلوك الإسرائيلي الذي دفع باتجاهه اليمين الذي حطم كل شيء، ويبدو أن السلطة تتوجس من أن من يقف خلف المسيرة هي حقاً حركة «حماس»، وكأنها صدقت الدعاية الإسرائيلية التي أرادت إلصاق التهمة لـ»حماس» حتى تتم شيطنة المسيرة لتبرير استخدام العنف ضدها، وفقاً لنوايا لم تحفها إسرائيل حتى قبل بدء المسيرة.

قبل المسيرة بأيام، زارني النشطاء المنظمون للمسيرة، وهم أصحاب الفكرة من المستقلين الذين بذلوا جهوداً ضخمة في الأسابيع الماضية لتحويل الفكرة إلى واقع حين كانت الفصائل تتجاهل دعواتهم، وعندما أصبح للفكرة أقدام وتشكلت لجنة مشتركة للمسيرة فهمت أن حركة «حماس» كانت تريد أن ترفع شعارات رفع الحصار في المسيرة، وأنهم تمكنوا من تثبيت روايتهم باعتبارهم أصحاب السبق، وأن المسيرة هي «مسيرة العودة» فقط ولا غير وتلك هي الحقيقة، لكن إسرائيل أخذت قبل البدء حتى بإشاعة أن حركة «حماس» هي من تقف خلف تنظيم «لغاية في نفس يعقوب».

لكن بحكم الواقع في غزة، فإن حركة «حماس» هي جزء من هذا الواقع لها جمهورها، وفي ظل انحسار الخيارات الأخرى من الطبيعي أن تكون جزءاً من المسيرة وربما تكون الأكثر مستفيدة منها، وبحكم إمكانياتها كسلطة في القطاع تتمكن من التحكم في الكثير. لكن من يلاحظ حركة الشارع يدرك أن ما هو قائم هو حراك شعبي حقيقي، وأن الفصائل جزء منه، لذا فإن نأي السلطة بنفسها عما يحدث على الحدود في غزة هو خطأ كبير، وربما يضيع عليها فرصة الاتكاء على هذه الحركة الكبيرة للتحرك السياسي ضد إسرائيل كدولة دفعت الأمور بهذا الاتجاه؛ عندما أغلقت كل الخيارات وبضمنها خيار السلطة التفاوضي.

السلطة مدعوة لالتقاط اللحظة التاريخية، هنا شعب يصنع ملحمته البطولية ويقدم الثمن بلا حساب وهو يواجه آلة البطش بهذا القدر من التحدي، مدعوة للاندماج وتبني حركة الشعب الصاعدة، هنا مثلها مثل القوى جميعاً، وأن توفر ما يكفي من الإسناد اليومي والسياسي والقانوني لهذه المسيرة التي تضع الإرادة الفلسطينية في مواجهة مباشرة مع محتل يتحضر للقضاء على القضية الفلسطينية.

إن الواقع السياسي القائم غاية في الصعوبة على مستوى الفعل الإسرائيلي والضعف العربي، وحملة التخويف الأميركية التي دعت بعض العرب للتهافت بالشكل الذي نلاحظه نحو إسرائيل والاعتراف بحقوقها قبل اعترافها بالحقوق الفلسطينية على الأقل كما جاء في المبادرة العربية، وقد تبدو اللحظة الفلسطينية غارقة في الإحباط أمام هذا التكامل في السوء القائم، وهنا يمكن لهؤلاء المتظاهرون على الحدود والذين صمدوا لعشرة أيام حتى اللحظة أن يفتحوا أفقاً وهو ما يجعل من التقاطها وطنياً ورعايتها أداة الكفاح الوحيدة القائمة والتي اجترحها الشعب الفلسطيني في غزة.

وبعيداً عن صغائر الحسابات التي ميزت الفعل الفلسطيني على امتداد السنوات الماضية فأودت بنا إلى جملة المهالك التي نحياها أو نموتها بشكل شخصي ووطني، فقد آن الأوان للتفكير بما هو أبعد، ليس فقط لأننا نريد تقليد الدول الحضارية بقدر ما أن هذا التفكير بعد سنوات من المناكفات والرؤى الحزبية أصبح متطلب اللحظة القائمة بعد سنوات الضياع الماضية.

من يتابع على الجانب الإسرائيلي يمكن أن يلمس تراجعاً عن روايتها الأولى، وبدأ الحديث يتصاعد بمصطلحات الفلسطينيين والغزيين وليس فصيلاً بعينه، وهذا ما ينبغي مراقبته جيداً وإدراك حجم التأثير والتخوف المتصاعد في الجانب الإسرائيلي. وإذا كانت إسرائيل قد بدأت تفهم الأمور على حقيقتها فعلى السلطة أيضاً أن تدرك أن هذه الهبة بحاجة إلى توفير متطلبات إدامتها وتعزيز صمودها لأن الفعل الإسرائيلي الأميركي المشترك يشكل استهدافاً لكل الفلسطينيين؛ إذ إن الكل بات في مرمى الخطر، لذا فإن المطلوب هو تشابك الأيدي لرعاية المتظاهرين على الحدود وحمايتهم وتوجيههم، وضمان بقائهم شوكة في حلق من اعتقدوا أنه آن أوان حملة التصفية لهذه القضية التي صدعت الرؤوس، الإسرائيليون يقولون: إن غزة تحولت إلى صداع مزمن كما كتب يوآف ليمور محلل صحيفة» إسرائيل اليوم» اليمينية.

وإذا كان الأمر كذلك فليستمر هذا الصداع ولنعمل على تعزيزه لأن ليمور يقول: «في النهاية قد نجد أنفسنا أمام فشل إستراتيجي لإسرائيل في مواجهة هذه المظاهرات والمسيرات؛ لأن العالم يراقب ويتابع، وصور القتلى والجرحى الفلسطينيين تملأ شاشات التلفزة». لذا فإن تمكن الانقسام من هذه المظاهرات تكون قد خذلنا أنفسنا وقدمنا كعادتنا خدمة جليلة لإسرائيل فلنتوقف عن ذلك ولنفكر بمسؤولية..!