مع انتشار خبر تفشي فايروس الكورونا التزمت منزلي أكثر من العادة: أراقب الأخبار، واتابع وسائل التواصل الاجتماعي، والاحق الحقيقة قدر الإمكان في عملية أقرب الى بحث عن إبرة في كوم قش. وحين التفكير في سبب تضارب المعلومات، وتنوع الاستنتاجات، وانتشار الاشاعات، وكثرة تصريحات مجهولي الهويات وفاقدي المؤهلات، وجدت ببساطة أنه هكذا نحن، هذه عقليتنا وهذا ارثنا الفكري وسلوكنا الاجتماعي.
فعلى مجموعات الواتس آب، أكبر مصدر للشائعات في العالم العربي، نجد هذه الأيام تسجيلات صوتية تُحذّر مما هو قادم بتفصيلاته التي من المفروض انه لا يعلمها الا الله، احداها مثلاً يقول بأن الحكومة ستُعلن عن اغلاق المتاجر الغذائية خلال يومين – أي الثلاثاء الماضي. ولا أحد يُعقّب على أن صوت المتحدث ليس قريب من صوت أي مسؤول وأنه مجرد صوت مجهول، ولا أحد يتساءل لماذا اغلاق المتاجر الغذائية فقط وليس متاجر بيع الألبسة أو إطارات السيارات مثلاً؟ ولا احد يبحث وراء الرسالة ليعرف من هو المتحدث وما هو مصدر معلومته؟ ولماذا بعث بالرسالة أصلاً؟.
صدفة، علمت أن صاحب الصوت على احدى هذه الرسائل التي اثارت الذعر في مدينتنا هو سائق حافلة (باص)، فراجعه أحد النشطاء بعد أن تعرف على صوته بحكم المعرفة الشخصية بينهما، وتبين للناشط أن سائق الحافلة حصل على المعلومة بطريقة غير مباشرة من احدى السيدات المتقاعدات والتي كانت تتحدث بمحتوى الرسالة الى رجل متقاعد يجلس بجانبها على الكرسي الرابع خلف سائق الحافلة!!!! نعم، صدق او لا تُصدق، رسالة بهذه المصداقية، او عدمها، أثارت الهلع في مدينتنا ودفعت المئات، إن لم يكن الالاف الى التوجه الى متاجر بيع الأغذية وصرف الملايين لشراء احتياجات قد لا يستخدموها لأن الموضوع لغاية كتابة هذه السطور هو مجرد إشاعة.
والغريب بالأمر انه بالرغم من أن الرسالة تحدد الثلاثاء الماضي هو يوم الاغلاق، ما زال البعض يعيد تدويرها بلا تفكير الى يومنا هذا.
حقيقةً، قضية الاشاعة واختلاقها او قيام سائق الحافلة بإرسالها الى صديق او مجموعة على الواتس آب لا تزعجني بقدر ما يزعجني جهل وعدم اكتراث كل من نشرها بعد ذلك، بمن فيهم أناس مثقفين ومسؤولين ولهم مواقعهم المحترمة في المجتمع، فهؤلاء هم المسؤولين عن حالة الذعر والهلع وليس سائق الحافلة الذي قد بعث بما فهم انه سمع الى صديق. ومثلما انتشرت هذه الرسالة وغيرها من الرسائل التي تحتوي على مغالطات واشاعات وحتى أكاذيب، فإنه يصلنا يومياً عشرات ومئات الرسائل التي تحتوي على مغالطات في شتى المجالات أدت الى خلق حالة من الضبابية السياسية والفكرية وحتى الوطنية، ومكّنت من يمتلك الوقت و الرغبة والقدرة لخلق الاشاعة أن يتمكن من تصديرها وتحويلها الى حقيقة خاصة بعد أن يتعمد تراكمية الاشاعات باتجاه معيّن يخدم توجهه الأيديولوجي او السياسي والذي في معظم الأحيان يكون شاذاً لا يرتقي الى مستوى المحاججة المنطقية... ولحسن حظ مبتكر الشائعة أن هناك من هو جاهز للتبرع لتوزيع هذه الشائعات وتحويلها الى حقيقة في عقول الناس بسبب نقص في شخصية الموزع، او بساطة في تفكيره، او عدم اكتراثه او حتى مشاركته في هكذا فكر شاذ.
إن الاشاعة من أخطر ما يحيط بالعقل، فبالإشاعة على وسائل التواصل الاجتماعي اعتقد شخص امريكي اسمه ادجار ويلش في عام 2016، وكان عمره حينها 28 سنة ووالد لطفلين، أن ما وصله بأسلوب تراكمي من مصادر مختلفة على وسائل التواصل الاجتماعي بأنه يوجد محل بيع بيتزا في العاصمة الامريكية يحوي نشاطات عصابة متاجرة بالأطفال لأهداف جنسية تقودها هيلاري كلينتون، ومع تراكم الاشاعة لمدة أسابيع والتي أصبحت في عقله البسيط حقيقة، استل بندقيته الالية من نوع AR – 15 وانطلق بسيارته لمدة ستة ساعات من بلدته سالزبورغ في ولاية كارولينا الشمالية وصولاً الى مطعم البيتزا في العاصمة واشنطن وحينها بدأ بإطلاق النار على محل البيتزا ومن فيه. وبعد القاء القبض عليه، قال انه فعل فعلته من باب المسؤولية الأخلاقية وعملاً بدينه المسيحي الذي يدعوه الى انقاذ الأطفال المساكين المحتجزين داخل محل البيتزا !!!! لكن في الحقيقة محل البيتزا كان مجرد محل بيتزا لا أكثر ولا اقل، والمجرم الحقيقي في ارتكاب هذه الجريمة بالأساس والذي يتحمل المسؤولية الكبرى عنها هو ربما ليس من اختلق الاشاعة، ولا ادجار ويلش الذي قام بإطلاق النار، بل المجرم الحقيقي هو من تداول الأكذوبة بدون مسؤولية او تحقق.
وحتى قبل اختراع وسائل التواصل الاجتماعي، عانى الشعب الفلسطيني من الاشاعات خاصة في الأعوام القليلة التي سبقت عام 1948 -عام النكبة التي نعيشها الى يومنا هذا- حيث انتشرت اشاعات عن قيام عصابات الصهاينة باغتصاب واختطاف البنات الفلسطينيات بأعداد كبيرة وذبح الأولاد والشباب، الامر الذي اثار الذعر بين الناس وأدى الى تهجير ولجوء مئات الالاف من أبناء شعبنا وتسهيل عملية الاستيلاء على أراضينا واحتلالها وإقامة دولة الاحتلال، وطبعاً إن هذه الجرائم حصلت فعلاً لكن ليس بالصورة التي أشيعت وأثارت الهلع لدرجة هروب قرى بأكملها. وهذه العقلية ذاتها تتحكم بأفكارنا وتصرفاتنا الى يومنا هذا، فأفضل سلاح ممكن أن تحارب فيه العربي هي الاشاعة، فهي أقوى من الرصاص والبارود، وممكن لها ان تدفعنا للقيام بأي شيء يهدف اليه مثير الاشاعة. فها هو نتنياهو وقبل عدة أشهر اخترع من مجند عربي خائن في جيشه الاحتلالي ليختلق منه شخصية باسم "محمد سعود" وجعله يتقمص دور شخصية سعودية بهذا الاسم، وجعله أيضاً يتحدث بتحبب عن نتنياهو وعن دولة الاحتلال. نتنياهو فعل ذلك ليخدع الناخب الإسرائيلي وخاصة الناخب الليكودي المعروف تاريخياً بأنه أقل منزلة تعليمية واقتصادية من الكثير غيره، فأراد نتنياهو أن يوصل رسالة مفادها بأن تشدده مع الفلسطينيين وقمعه وظلمه وعدوانه دفع العرب، من خلال هذه الشخصية الوهمية، الى التقرب منه في رسالة عنصرية يتلذذ بها من يشارك نتنياهو عنصريته. ونحن بدورنا لم نبحث عن شخصية محمد سعود المدوّن السعودي الحقيقي والذي هو كاتب صحفي ملتزم ومؤيد للحقوق الفلسطينية، ولم ينتبه أحد أن شخصية "محمد سعود" التي اختلقها نتنياهو ليس لها وجود على أي من وسائل التواصل الاجتماعي قبل انتخابات الكنيست الأولى التي حدثت عام 2019 وأن محمد سعود الحقيقي موجود بكثافة على وسائل التواصل الاجتماعي بصوره وكتاباته المُشرفة قبل ذلك التاريخ وليس له علاقة بالشخصية التي اختلقها نتنياهو، ولم يسأل أحد كيف لضيف نتنياهووالمفترض حسب ادعاء دولة الاحتلال انه ضيفه "السعودي" أن يقتحم المسجد الأقصى المبارك بلا حراسة !!! ولم يسأل أحد انه في الوقت الذي تُحاكم فيه السعودية كل من يدعو الى التطبيع فإنها لا تمس شخصية الخائن التي اخترعها نتنياهو لو كانت فعلاً حقيقية!!!
وبعد أن حقق نتنياهو هدفه الانتخابي، استغل فرصة اختلاق هذه الشخصية افراد إسرائيليون متطرفون يعملون في منظومة تشويه العلاقات العربية-العربية،وهي منظومة موجودة منذ أيام العصابات الصهيونية قبل إقامة دولتهم الاحتلالية مثل المدعو ادي كوهين وغيره، ممن اخذوا من المجند في جيشهم الاحتلالي والذي يلعب الدور الذي رسمه له نتنياهو سلعة لتسويق لأفكارهم المسمومة وذخيرة لبث الفرقة بين أبناء الأمة العربية.
ولم تقف الأمور عند هذا الحد، فبعد نتنياهو، وأمثال ايدي كوهين، تلقف هذه الشخصية التي اخترعها نتنياهو باسم "محمد سعود"، المعسكر الإعلامي العربي - التركي المعادي للسعودية والتنظيم الدولي المشارك في هذا المُعسكر، ولا أريد أن ادخل في ثنايا هذا الموضوع حتى لا نفقد بوصلة النقاش البعيدة كل البعد عن التمحور العربي-عربي والعربي-التركي. فأخذ نشطاء المحور المعادي للسعودية يخترعون المزيد من القصص حول شخصية "محمد سعود" التي اختلقها نتنياهو وفريقه الإعلامي، حتى بدأ البعض يشير له باسم "محمد بن سعود" في ايحاء للعائلة المالكة!!! واخذ هذا المعسكر هذه الشخصية الوهمية، كما هي ولم يشكك بها، واعتبر أعضائه أن تفاعل نتنياهو مع هذه الشخصية مُقدس ولا لُبس فيه، وسوقوها، وأضافوها الى القصص الأخرى لتُزيد من تراكمية الانطباع الذي يريدوا أن يضفوه على المملكة العربية السعودية وغيرها من دول الخليج التي يستعدونها. وهكذا تمت شيطنة السعودية في عقول البعض، فانطلقوا يشتمونها علماً بأنهم يقفون على النقيض الأيديولوجي من الجهة العربية-التركية المسوقة للشخصية الوهمية التي اخترعها نتنياهو، فرد بعض السعوديون ومنهم من بلغ جهلاً بأن بالغ في رده وتمادى الى ما هو غير مقبول ومُخزي وخياني، فتم الرد عليه وهكذا تسممت العلاقات الشعبية بالرغم من خروج العديد من المسؤولين الذين يشيدون بدور السعودية في دعم القضية الفلسطينية. لكن بعد ماذا؟؟؟؟ فلقد انتصرت إشاعة التواصل الاجتماعي على الحقيقة. فلا تستغربوا.... لأنه هكذا نحن، هذه عقليتنا، وهذا ارثنا الفكري، وسلوكنا الاجتماعي، وسيبقى حتى تظهر قوة داخلية من نسيج المجتمع وبدون تدخل رسمي سطحي تقلب الطاولة، وتُغلب الفكر المنطقي على الشائعة، وتسأل كل الأسئلة المسموحة وغير المسموحة،ـ وتُغير نهج واسس تناقل وقبول وتصديق والمثول للمعلومة مهما كان نوعها. والى ذلك الحين لن تقوم لنا قائمة ولن نشهد نهضة ولن نعيش نصر.