أول من أمس لم يكن يوماً عادياً في تاريخ قطاع غزة، حيث سيول البشر التي تدفقت منذ ساعات الصباح الأولى إلى خيامها التي انتصبت لتعيد ترميز حالة اللجوء وذكرى العودة التي لا يزال يحلم الفلسطيني الطريد بها، حاملاً مفتاح بيته ووصية الأجداد الذين طردوا كتعويذة ترقد في قاع صدره.
لا راية سوى راية فلسطين، كل القوى والفصائل بلا استثناء والشخصيات الوطنية التي عملت على هذه المسيرة تستطيع أن تحسب لنفسها أنها تمكنت من تحريك الشارع باتجاه الزحف البشري، فالذين زحفوا، أمسن هم الشعب وهم أكبر كثيراً من جمهور الفصائل لأن أي نقطة من التجمعات الخمسة كانت وحدها تجمع أكبر من الذين تجمعهم الفصائل مجتمعة في مناسباتها.. إنه الشعب الذي يجمعه النداء الوطني وتفرقه النداءات الحزبية ونداءات الانقسام.
لكن الخسائر كانت كبيرة في مسيرات سلمية لم تطلق فيها رصاصة واحدة في وجه إسرائيل، كان قد تقرر أن يبقى المتظاهرون على مسافة 700 متر فاندفع جيل من الشباب استعجالاً للمواجهة.. كان من المتوقع أن تسيطر الفصائل والأمن على الشباب لكن الحقيقة التي نعرفها جميعاً أن الشارع حين يندفع يصبح سيد برنامجه ويقرر مواجهته، وإذا كنا نراهن على عدم قدرة إسرائيل على مواجهة سيل البشر كما فشلت أعتى الجيوش في ذلك لنا أن نتوقع فشل الفصائل والأمن في ذلك، وهذا ما حدث لنجد أنفسنا أمام هذا القدر من الخسائر.
ستة عشر شهيداً من هؤلاء المسالمين وحوالى 1500 جريح في اليوم الأول، 35 منهم في حالة خطرة وبعضهم تعرض جزء من جسده للبتر، وفي تلك ما يعيد تأكيد وحشية الاحتلال الذي يطلق النار بلا حساب على المدنيين في ظل صمت العالم الذي اجتهد في صياغة قوانين حماية المدنيين، ولكن للاحتلال ثقافة مختلفة حين يطردك من أرضك ويلاحقك إلى حيث اللجوء ويرفض حتى أن تحتج على تهجيرك فيباغتك بالموت.
لكن إسرائيل التي كانت قلقة قبل أسبوع من المسيرة، ليس بسبب قدرتها على المواجهة وهي تدرك أن المنظمين قرروا ألا يجتاحوا الحدود وأرسلوا ما يكفي من الرسائل لتأكيد ذلك، لكن الأكثر إزعاجاً بالنسبة لها، وهي تجهز لاحتفالات الذكرى السبعين لإقامتها، هو إعادة تظهير الرواية الفلسطينية وملاحقة إسرائيل وتفكيك الخطاب الإسرائيلي الذي يتكئ على عودة ميثولوجية لثلاث آلاف عام، بينما الفلسطيني يتحدث عن عودة حقيقية عمرها سبعة عقود، لذا أفرطت في استخدام القوة؛ لأن الأمر يمس بشرعية الوجود المجروحة.
ما حدث في اليوم الأول يجب إعادة قراءته وتقييمه لاستخلاص العبر وتقييم إستراتيجيا الفعل لضمان أفضل النتائج وأقل الخسائر، نحن أمام محتل لن يتورع عن استخدام أقصى القوة ارتباطاً بهوس الوجود وجيل من الشباب لن يستطيع أحد وقف اندفاعهم، وربما أن إسرائيل استخدمت هذه القوة لإجهاض المسيرات واستمرارها لتسلح الرافضين لها بذخيرة تعزيز موقفهم؛ لأن في الاستمرار ما يخلخل الرواية وقد يتصاعد وصولاً لضرب الرواية في مقتل؛ عندما تصل لذروتها إذا اندفعت مئات الآلاف على امتداد الحدود نحوها وليس في مناطق محدودة، وحينها فإن قدرة مواجهة إسرائيل تصبح في مأزق.
لكن السؤال لماذا خطط القائمون على المسيرة أن تستمر الفعاليات لمدة 45 يوماً؟ وإذا كان هذا ممكن نظرياً الآن بعد تجربة اليوم الأول يصبح مدعاة لإعادة التفكير من جديد؛ لإن هناك من أسئلة العقل ما يكفي لاستخلاص العبر وضمان نتائج أفضل، فهناك مسألتان ينبغي أن يتم أخذهما بعين الاعتبار: الأولى ماذا لو استمر الاستنزاف بالشهداء والجرحى بهذا العدد فإلى حين أن نصل للذروة نكون قد دفعنا ثمن أكبر مما يجب هذا قبل أن نصل لليوم الكبير.
المسألة الثانية وهي سؤال ماذا لو فعل الزمن فعله باتجاه إحداث نوع من الفتور وتحويل الاعتصامات إلى حدث روتيني يومي يفقد وهجه مع الزمن، وقد يسمح الوقت ببروز نوع من الخلافات والسلبيات والنزاعات، وبالتالي نصل للخامس عشر من أيار فنكون قد فقدنا الدافعية، وحينها لن يكون ذلك في صالحن، لذا ليس من الخطأ استخلاص العبرة وإجراء تقييم عاجل وإعادة ترتيب المعركة بما يتناسب مع المستجدات.
لهذا فإن اقتراح تعليق المسيرات يجب أن يجري نقاشه لجهة التحضير لليوم الكبير، أن تعلق المسيرات وأن يستمر التحضير لذلك اليوم في كل بيت وكل وسائل الإعلام بحملة أكبر، مستندين ليوم الجمعة الماضي كعينة، وفي هذا ما يجعل الناس تنتظر بشوق إلى ذلك اليوم، محافظين على وهج الحدث بدل أن نفقده. وفي هذا ما يزيد من خوف إسرائيل التي ستحسب إذا كانت البروفة الأولى بهذا الزخم فما بالنا بالفعل الحقيقي، وبهذا نكون قد حافظنا على عنصر القوة والتهديد ولتترك إسرائيل تجري كل الحسابات والاتصالات وتقدم التنازلات والعروضات، ولنستمع دون استعجال، فالمعركة طويلة وهي باتت تدرك أن غزة لن تحتمل أكثر وأن مصادرة الحقوق الوطنية من مستحيلات الشعوب ذات الإرادة الحية وغزة حبلى بالإرادة.
لقد بطشت إسرائيل بالشعب الأعزل وأرادت إحداث كي لوعي الناس في غزة، الناس هنا لا تستجيب بل إن ردة فعلها معاكسة، ولكن ماذا لو استمر الأمر لشهر ونصف الشهر على هذا الحدث فلا أحد يريد خسائر مجانية، وإذا كان لا بد من الخسائر فلندفعها مرة واحدة في يوم العودة.
المسألة تحتاج إلى حساب العقل الهادئ لأن قيادة المعارك هي لعبة مناورات أولاً، ولعبة مفاجآت ثانياً، والتلويح بالقوة وليس استعمالها فقط ثالثاً، وهنا فإن الإرادة الشعبية سلاح كفيل بتخويف الاحتلال إذا ما أحسن التهديد بها وليس استعمالها في اللحظة الأولى. لا أحد يريد استنزاف الشباب؛ لأن المعارك قادمة ولتترك إسرائيل في حالة القلق الظاهرة، ولتتوقف لحظة الزخم، لا أن نمد الوقت لنحولها إلى عاديات الأشياء، هي معركة إرادة تحتاج إلى إدارة وعقل وشجاعة.. هل يمكن نقاش تعليق المسيرات، ففي هذا ما يحافظ على الزخم وقوة التهديد وهذا مطلوب في هذه المعركة..!