مثل حجم المشاركة الجماهيرية الهائل في أول فعاليات "مسيرة العودة الكبرى" التي انطلقت الجمعة الماضي في جميع أرجاء قطاع غزة مفاجأة حتى لممثلي الفعاليات المجتمعية والقوى الفصائلية التي أشرفت على تنظيمها.

فعلى الرغم من حملة التخويف الممنهج التي عكفت عليها سلطات الاحتلال من خلال إطلاق التهديدات المباشرة وغير المباشرة وعبر توظيف مواقع التواصل الاجتماعي، فقد زحفت الجموع لمعسكرات "العودة" التي دم تدشينها على نقاط التماس المختلفة على الحدود الفاصلة بين قطاع غزة وإسرائيل.

وبخلاف التوقعات، فقد تبين أن التوتر الفلسطيني الداخلي الذي سبق تنظيم المسيرة والناجم عن الجدل حول ملابسات التفجير الذي استهدف موكب رئيس حكومة السلطة الفلسطينية رامي الحمد لله قبل ثلاثة أسابيع، لم يؤثر على دافعية الجماهيري في المشاركة في فعاليات المسيرة، بحيث تبين أن الحماس للمشاركة في المسيرة كان عابرا للانتماءات التنظيمية والحزبية، فضلا عن الفروق العمرية. فحتى بعد وصول التقارير حول سقوط الشهداء في المواجهات تواصل تدفق الجماهير على مناطق التماس وباتجاه المنطقة التي تم تحديدها سلفا، وهي مشاهد تذكر بالإصرار الجماهيري على مواصلة تحدي الاحتلال بعد أن شرع في قمع مظاهرات الفلسطينيين عند اندلاع الانتفاضة الأولى أواخر العام 1987.

إسرائيل أرادت أن تضفي صدقية على تهديداتها المسبقة باستهداف المشاركين في مسيرة العودة في حال اقتربوا من الخط الحدودي الفاصل مما جعل جيشها يتوسع في إطلاق النار الحية على الجماهير، مما أفضى إلى سقوط 18 شهيدا وجرح حوالي 1300 آخر. لكن تل أبيب تعي في الوقت ذاته أن هذا السلوك يمكن أن يتحول إلى سهم مرتد ويفضي إلى صب الزيت على النار ويضمن زيادة دافعية الفلسطينيين لمواصلة فعاليات المسيرة.

وتتجاهر المحافل الأمنية الإسرائيلية بالتعبير عن مخاوفها من أن تفضي المواجهات في أرجاء قطاع غزة وما يصاحبها من سقوط للشهداء والجرحى إلى إشعال الأوضاع الأمنية في الضفة الغربية.

صحيح أن الضفة الغربية شهدت أمس بشكل عام هدوء نسبيا مقارنة مع ما كانت عليه الأمور في قطاع غزة، ولكن سلطات الاحتلال تعي في الوقت ذاته أنه قد تم تحقيق هذا الهدوء بفعل التعاون الأمني بين هذه السلطات وأجهزة السلطة الفلسطينية الأمنية.

فعشية إحياء فعاليات يوم الأرض أقدمت سلطات الاحتلال وأجهزة السلطة الأمنية على تنفيذ حملت اعتقالات واسعة شملت بشكل أساس قيادات وعناصر حركة حماس. مع العلم أن هذه الاعتقالات لم تتوقف أصلا، بل زادت وتيرتها فقط.

لكن ما يدلل على أن كلا من السلطة وإسرائيل باتا يتخوفان من حدوث تحول "إيجابي" على توجهات بعض القوى التنظيمية الفلسطينية في الضفة الغربية بشأن المواجهة مع الاحتلال، حقيقة أن سلطات الاحتلال قامت عشية الاحتفاء بيوم الأرض باعتقال عدد من قادة حركة "فتح" الميدانيين، وضمنهم أمناء سر التنظيم في بعض المناطق. وهو ما يمثل مؤشرا على عدم ثقة تل أبيب بأن توجهات قيادة السلطة الفلسطينية مقبولة على القيادات الميدانية لـ "فتح".

إلى جانب ذلك، فأن تواصل المواجهات في قطاع غزة ضمن فعاليات مسيرات العودة حتى الخامس عشر من مايو، وهو الموعد المحدد لنقل السفارة الأمريكية من تل أبيب إلى القدس يرجح أن يزيد من دافعية الفلسطينيين للتعبير عن احتجاجاتهم، وهو ما يزيد من فرص تفجر الأوضاع الأمنية في الضفة على نطاق واسع. وتمثل الزيادة التي طرأت مؤخرا على عمليات المقاومة الفردية ومحاولات القيام بهذه العمليات مؤخرا مؤشرا مقلقا بالنسبة لدوائر صنع القرار السياسي والعسكري في إسرائيل.

على كل الأحوال، فأنه يمكن القول أن الفلسطينيين، حققوا بعد اليوم الأول من فعاليات مسيرات انجازات كبيرة. فقد فضحت هذه المسيرات حالة انعدام اليقين السائدة في إسرائيل تجاه السياسات التي تتبعها حكومة اليمين المتطرف تجاه غزة. وهو ما يفسر الدعوات التي انطلقت في تل أبيب لإعادة تقييم إستراتيجية التعامل مع القطاع. في الوقت ذاته، فقد أثرت فعاليات المسيرة بشكل واضحة على الأجندة الداخلية الفلسطينية، حيث أدت هذه الفعاليات وما صاحبها من تضحيات إلى تغيير اتجاه بوصلة الاهتمام الوطني الفلسطيني وأفضت إلى اختفاء السجال الداخلي وتبادل الاتهامات. إلى جانب ذلك، فقد حمل تصميم الفلسطينيين على المشاركة في فعاليات مسيرات والعودة واستعدادهم للتضحية على هذا النحو رسائل قوية لإدارة الرئيس ترامب والأطراف الإقليمية العربية التي تحاول بدون مواربة دفع الأفكار الأمريكية لتسوية الصراع، والتي يطلق عليها "صفقة القرن"، بأن الفلسطينيين غير مستعدين للتعاطي مع أية مخططات تهدف إلى تصفية القضية الفلسطينية، وضمنها عبر طرح فكرة الدولة الفلسطينية في غزة وشمال سيناء. ويكتسب توقيت تنظيم هذه الفعاليات أهمية كبيرة، حيث أنها جاءت بعد اجتماعات العصف الذهني التي احتضنها البيت الأبيض وبروكسل لتدارس مستقبل قطاع غزة، حيث تبين أن الإدارة الأمريكية تعمل على التمهيد لدفع صفقة القرن من خلال التذرع بمتطلبات حل الأزمة الإنسانية في قطاع غزة.

إلى جانب ذلك فقد عززت هذه الفعاليات من مستوى ثقة الفلسطينيين بأنفسهم وسمحت لهم باستعادة زمام المبادرة، بحيث تحولوا إلى طرف مؤثر في بيتهم الداخلية والإقليمية بعد أن كانت ساحتهم مسرحا فقط للتدخلات الأجنبية.