يوم الأربعاء الماضي، كان قائد المنطقة الجنوبية في الجيش الإسرائيلي، إيال زامير، يتفقد جاهزية قواته في مواجهة المسيرات الجماهيرية التي ينوي الفلسطينيون تنظيمها على حدود قطاع غزة كجزء من تحضيرات إسرائيل لتحرك تعتبره مختلفاً من حيث النوع ومن حيث الأدوات التي ستواجه فيها إسرائيل شعباً أعزل، لكنه مدجج بالإرادة.
لم تتفاجأ إسرائيل بالدعوة للتحرك السلمي على الحدود، وقد تنبأت بذلك منذ العام 2011، عندما كانت الجماهير العربية تحتل الميادين والشوارع. توقعت إسرائيل أن يفعلها الفلسطينيون وعقد الجيش الإسرائيلي ورشة، استمرت ثلاثة أيام، بحث حينها قدرته على المواجهة غير الكلاسيكية، فهو جيش مدرب لحروب نظامية ويمتلك أحدث الأسلحة وأحدث التقنيات الحديثة، لكن في مواجهة شعب زاحف فهذا بالنسبة لها شيء مختلف وتجربة الانتفاضة الأولى ربما تذكر بشيء من هذا.
في تلك الورشة أبدى الجيش عدم قدرته على صدام من هذا النوع، ورفع توصية للمستوى السياسي بأنه يستطيع مواجهة آلاف على أصابع اليد الواحدة، أما أكثر من ذلك فهذا يتطلب فتح مسار سياسي لحل الأزمة، ولكنه من أجل مجابهة الآلاف رفع مجموعة مشتريات للتعامل مع الشعب الغاضب، منها: قنابل ذات رائحة كريهة وقنابل غاز ذات تركيز أعلى، كذلك مدافع تصدر طنيناً مزعجاً لا تحتمله الأذن، وقبل أسبوع جرى الحديث عن تجريب طائرة مسيرة لإلقاء قنابل الغاز على المحتجين.
كل ذلك يجب أن يؤخذ بالاعتبار لدى المنظمين وإيجاد وسائل التعامل مع الغاز وقنابل الرائحة وإغلاق الأذن، وربما كثير من الإجابات حول التخييم والإمدادات والغذاء وغير ذلك؛ لضمان ألا يتراجع الفلسطينيون وألا يسجلوا هزيمة للإرادة لأنه ليس لديهم متسع للهزائم بعد كل الذي حدث وهم يستلون سلاحاً جديداً طال انتظاره.
إسرائيل تحسب للمواجهة مع الزحف الشعبي. وخلال الأسبوع الماضي كانت أخبار الحراك السلمي تتصدر نقاشات المستويين العسكري والسياسي والكابينيت في إسرائيل، وكذلك اهتمت وسائل الإعلام والصحافة، وتحول الأمر إلى ما يشبه الجدل في إسرائيل حول المسألة والخيار الفلسطيني الجديد، وتحضيرات الجيش والمواجهة والتهديد على سكان البلدات الإسرائيلية المجاورة لغزة.
الحقيقة أنه لم يبق لدى الفلسطينيين كثير من الخيارات بعد تجربة العقود الماضية، فالمفاوضات التي سارت بها القيادة الفلسطينية حوالى عقدين ونصف العقد فشلت بل وشكلت غطاء سار تحته مشروع الاستيطان بنجاح، وتجربة الصدام المسلح هنا في غزة كانت تكلفتها أعلى من أن تحتمله غزة ولم نحقق نتائج في الحالتين.
لذا فإن السلاح الوحيد المتبقي هو الربيع الفلسطيني الذي تأخر كثيراً، في حين أن مجموعة من النشطاء الوطنيين بدأت في التنظير لهذا الخيار منذ سنوات، أمثال الدكتور رياض عواد وجميل عبد النبي وانضم إليهم أحمد أبو رتيمة، وكذلك أساتذة الجامعات، وتوسعت المسألة إلى أن أصبحت فكرة قوية في المجال العام فرضت نفسها بقوة للنقاش إلى أن تمكنوا من أن يجعلوها برنامج عمل المرحلة.
بتثاقل تبنت الفصائل في قطاع غزة الفكرة لتحويلها إلى خطة عمل، هذا مهم لأن الفصائل هي من يمتلك كل إمكانيات العمل، وهي الوحيدة القادرة على تجنيد الشعب والمؤيدين وأسطول الإعلام وإعطاء الشرعية للبرنامج، ولكن على الفصائل هذه المرة ألا تظهر في المقدمة للعديد من الأسباب، وأبرزها ألا يفقد الفعل الشعبي ميزته الرئيسة وإعطاء ذريعة لاتهام القوى الفلسطينية وتجريد العمل من مدلولاته الشعبية التي تعني الكثير أمام الرأي العام الدولي وحتى الإسرائيلي، لأناس تم طردهم من أرضهم ويعيشون بجوارها على هامش الحياة ويريدون العودة لديارهم، فقد بدأت ماكنة الإعلام الإسرائيلية تتحدث عن أن حركة «حماس» تعد لمواجهة شعبية وهذا آخر ما تحتاجه المسيرة السلمية.
لذا فإن على الفصائل أن تتحرك من الخلف، فكل إنجاز سيحسب لها، وألا تتصدر المشهد حتى لا يستغل الإسرائيلي ما يحدث، وأن تنشغل بالتخطيط والتحشيد والتجهيز من خلف الستار تماماً كما فعل «الإخوان المسلمين» في «ثورة يناير» المصرية، حيث كانوا ينقلون الأكل بالشاحنات في الشوارع الخلفية لميدان التحرير كما حدثني صحافي فلسطيني كان متواجداً هناك يراقب ما يحدث، وبالنهاية على الفصائل ألا تخشى من النتيجة؛ لأن كل شيء ناجح سيسقط في جيبها فهي القوى المنظمة في هذا الوطن، وعليها أن تتوقف عن البحث عن قضايا شكلية كالصدارة والراية والكاميرا لأن المعركة الوطنية أكبر وأهم من ذلك بكثير.
نأمل جميعاً ألا تكون الفصائل قد عجلت بالموعد الزمني لبدء التحرك الذي وضعته في الثلاثين من آذار الجاري؛ لأن عملاً بهذا المستوى وجب التحضير له جيداً، وقد يستغرق الأمر أشهراً لإقناع الشارع ودخول القناعة لكل بيت ولكل أسرة وشباب وشيخ وامرأة، لا عملية سلق على عجل لأن الخشية من عدم نضوج المسألة قد لا تضمن النجاح المطلوب، وبالتالي لا نريد أن نخسر آخر أسلحتنا المتبقية وإلا فإن الخسارة كبيرة، وهنا بالذات لا يحتمل الوضع الفلسطيني مزيداً من الخسارات، خصوصاً أن ظهرنا للحائط وليس لدينا سوى هذه التجربة، وإذا لم تنجح من الصعب إقناع الناس بعدها بالمشاركة.
الأمل كبير والدافع أكبر في منطقة صغيرة تستطيع الناس الذهاب للجدار سيراً على الأقدام، لأن المسافة التي تفصل أبعد مواطن عن هذا الجدار أقل من ستة كيلو مترات. هذا المواطن الذي تم تشريده وتهجيره وحشره في غزة وملاحقته بالدمار والحصار ليعيش بؤس الحياة لاجئاً حد العدم، لا يجوز أن يقبل بهذه الحياة وفي ظل فشل الخيارات الأخرى عليه أن يتحرك بكل ما يملك من طاقة وإرادة.
إسرائيل تجهز نفسها فقد أنهت الاستعدادات ورئيس الأركان جال، الخميس الماضي، على الحدود، والجرافات الإسرائيلية أقامت سواتر ترابية وجرى تجهيز طائرات رش الغاز، كل ذلك يجب أن يكون محل استعداد مقابل لذلك. ولكن الأهم كيف تبقى المسيرات سلمية وبأقل الخسائر. لا نريد في عمل سلمي أن نخسر الأبناء، وتلك الرسالة المقدسة التي يجب أن تشغل الفصائل أكثر من أي شيء آخر، تعزيز ثقافة الكفاح السلمي تحت معادلة إنجازات أكبر وخسائر أقل ..!