هل سينجح المسعى المصري في إنهاء الانقسام؟ سؤال مطروح بقوة، وسط موجات من الشكوك وتضارب المصالح، والتجارب السابقة الفاشلة بامتياز.
الانقسام الذي دفع الشعب الفلسطيني، خاصة في قطاع غزة، أثمانه الهائلة والتي بلغت مداها في الحروب والحصار والتجويع والقمع والتدخلات على أنواعها.
وإذا كان من المؤكد وجود مصلحة حقيقية للشعب الفلسطيني في إنهاء الانقسام منذ يومه الأول وحتى أيامه الأخيرة في سنته العاشرة، فإن تضارب المصالح بين "فتح" و"حماس" من جهة، وتضارب مصالح إقليمية ودولية من الجهة الأخرى قد يؤدي إلى فشل المسعى المصري أيضاً.
تاريخ الانقسام لم يشهد غير الإخفاق، فقد استنفدت كل المساعي الذاتية، حيث أخفق اتفاق الشاطئ، وفشلت اتفاقات القاهرة التي تمخضت عن مسعى مصري، وأخفق اتفاق الدوحة الذي كان بمسعى قطري، ومن قبلهما أخفق اتفاق مكة الذي كان بمسعى سعودي.
على ضوء الإخفاقات المتتالية على مدار عشرة سنين، ما هي المتغيرات الجديدة التي يمكن البناء عليها لتحقيق مستوى من الوحدة الفلسطينية وإنهاء الانقسام؟
متغير أول: هزيمة "الإخوان المسلمين" في مصر وتضعضع المركز الدولي للإخوان الذي كان نواته الفرع المصري وانعكاسه سلباً على حركة "حماس"، كما أن إضعاف الحاضنة القطرية للحركة بعد تعرض قطر لمقاطعة وعقوبات أربع دول عربية كان له أثر سلبي على الحركة، ولعب نضوب أموال "الأنفاق الحدودية" وتراجع الدعم الإيراني للحركة، وعجز الأخيرة عن تلبية احتياجات تنظيمها وسلطتها فضلاً عن تدهور الخدمات العامة، هذا العامل الاقتصادي لعب دوراً ضاغطاً على الحركة ودفعها للبحث عن مخارج وحلول لم تكن تقبل بها من قبل.
من جهة أخرى، أثر الحصار الإسرائيلي والتهديد بعدوان جديد على مجمل خيارات حركة "حماس". هذه المتغيرات وضعت الحركة في شروط قاسية لا تحسد عليها، ودفعتها لإعادة العلاقة مع مصر بشروط الأخيرة، ومن ضمنها العلاقة مع جماعة دحلان المفصولة عن حركة "فتح".
متغير ثان: تعامل إدارة ترامب مع حركة "حماس" كحركة إرهابية، وتضمين "الرباعية العربية" لشروطها بنداً يطالب بإبعاد قيادة "حماس" من الدوحة واعتبارها تنظيماً إرهابياً، لكن "الرباعية العربية" شطبت إدراج حركة "حماس" ضمن قائمة الإرهاب بعد تفاهماتها مع مصر، وتعرضت قيادات من "حماس" للإبعاد من تركيا بضغط أميركي إسرائيلي. ولا شك في أن وصم حركة "حماس" بالإرهاب دولياً وعربياً، سيزيد ويفاقم من عزلتها وشللها.
متغير ثالث: لا تستطيع حركة "حماس" الاعتماد على إيران بمستوى كبير في ظل صراع الأخيرة مع محور عربي يملك المال والجغرافيا بقيادة السعودية، وفي ظل الحصار والعزلة وفقدان "الأنفاق الحدودية" وأدوات الدعم اللوجستي (مهربون ومسلحون) داخل سيناء المصرية كوسيلة للتواصل والدعم الإيراني. إن استحقاقات اعتماد "حماس" على الدعم الإيراني باهظة الكلفة، ولا تؤدي غالباً إلى حل الأزمة الخانقة، بل ستفاقمها، لأن ثمن العلاقة مع إيران سيكون باهظاً إذا ما قيس بثمن القطيعة مع إيران أو الاحتفاظ بعلاقة تكتيكية كورقة ضغط متبادلة ضد إسرائيل على أقل تقدير. وهذا يعني محدودية الجدوى في حال اعتماد حركة "حماس" على الدعم الإيراني كخط أول وأساس. وبالمثل لا تستطيع تركيا تلبية احتياجات "حماس" الأساسية في ظل الاتفاق الإسرائيلي التركي الذي لم يترك لحركة "حماس" إلا القليل.
متغير رابع: الدفع باتجاه انفجار ضد دولة الاحتلال، وما قد يترتب عليه من حرب إسرائيلية رابعة ضد قطاع غزة، حرب تعيد خلط الأوراق، وتضع حركة "حماس" في موقع مقاومة المستعمرين ورفض سفالات احتلالهم، وما يستدعيه هذا التحدي البطولي من تضامن شعبي ورسمي ومن أشكال دعم، ومن إضعاف للسلطة التي ستقف عاجزة عن فعل أي شيء أثناء الحرب. إن هذا الخيار استنفذ وتحول إلى مقامرة غير محمودة العواقب؛ بفعل وجود ترامب الذي يتعاطى مع "حماس" كتنظيم إرهابي، وبفعل وجود أفيغدور ليبرمان الذي أعلن مراراً أنه سيغير قواعد اللعبة، من زاوية استهداف قيادة "حماس" السياسية والعسكرية على حد سواء. وبفعل الأعباء الإضافية التي تفرضها أي حرب جديدة على المواطنين الذين ما زالوا يعانون من أهوال التدمير في الحروب السابقة، وبفعل شطب الأنفاق وانفراط شبكات الدعم اللوجستي بفعل الحرب ضد الإرهاب في سيناء، وبسبب افتقاد "حماس" لأي دعم وغطاء عربي رسمي ولأي تضامن دولي رسمي. باختصار لقد تغيرت كل الظروف التي تسمح بالتعامل مع خيار من هذا النوع، وبفعل هذا التغير تغيرت خيارات "حماس" التي مضت في التضييق على المجموعات المتطرفة التي تستخدمها في التصعيد، وذهبت في التنسيق مع الأمن المصري إلى مستويات غير مسبوقة، خاصة لجهة تقديم قاعدة معلومات في غاية الأهمية.
متغير خامس: موقف السلطة الذي تغير نوعياً بعد مرور 10 سنوات على انقلاب "حماس" وسيطرتها على قطاع غزة، فقد انقلبت السلطة على الصفقة غير المعلنة بين الطرفين والتي تقضي بتمويل سلطة "حماس" وتحمل الأعباء نيابة عنها مقابل موقف "حماس" المزدوج من الشرعية الفلسطينية – قبول هدفه وراثة الشرعية ورفض يخلخل الشرعية ويعجل في انفراطها.
لقد اغتنمت السلطة فرصة عزلة وضعف وأزمة حركة "حماس" للانسحاب من الالتزامات ووضع "حماس" أمام خيارين أحلاهما مر، من وجهة نظر "حماس"، التسليم بالشروط أو تحمل المسؤولية وحدها. وقد لعبت إجراءات السلطة دوراً مهماً في دفع حركة "حماس" نحو القاهرة والإعلان خطياً عن حل اللجنة (حكومة "حماس" الفعلية) والسماح لحكومة الوفاق بممارسة مهامها في القطاع والقبول بالانتخابات مقابل تراجع السلطة عن إجراءاتها، وهي شروط السلطة لإنهاء الانقسام.
كل الطرق مغلقة أمام "حماس" ما عدا طريق القاهرة، القاهرة التي شطبت شرط اعتبارها تنظيماً إرهابياً من قائمة شروط "الرباعية العربية" المقدمة لقطر، والقاهرة التي استحصلت على ضوء أخضر أميركي وإسرائيلي للذهاب في إنهاء الانقسام الفلسطيني. ولكن مقابل ماذا؟ تعاون "حماس" في الحرب المصرية ضد الإرهاب، والتراجع عن سلطاتها الإدارية والسياسية والاقتصادية والشرطية للسلطة الرسمية المعترف بها عربياً ودولياً، والاحتفاظ فقط بالسلطة العسكرية المقيدة أيضاً بالسلطات الأمنية المصرية. ولكن هناك ثمن فلسطيني أعم وأشمل غير معلن مطلوب تقديمه هو الحل الإقليمي للقضية الفلسطينية لا يكون العامل الفلسطيني فيه مقرراً، وهذا سر الضوء الأخضر الأميركي الإسرائيلي وتلك هي الطامة الكبرى التي جلبها الصراع على السلطة.