لم تحتفظ سورية بحق الرد، كما اعتادت القول في بياناتها التي كانت مدعاة للسخرية من قبل كل خصومها وأنصارها، بل لاحقت الطائرة الإسرائيلية إلى داخل إسرائيل لتسقطها، في سابقة لم تحدث منذ ثلاثة عقود، وكانت تلك مفاجأة في تل أبيب التي أفاقت، صباح أمس، على ما يعتبر ضربة لسلاح الجو الإسرائيلي الذراع الضاربة في حروب إسرائيل.
صور حطام الطائرة التي كانت تنقلها وسائل الإعلام لم تكن إسرائيل مهيأة لها، وهي اعتادت على أن تضرب بلا حساب وبتهديدات لا تتوقف على شكل استباحة دائمة للأراضي السورية المشغولة بمعاركها الداخلية، فقد بلغت حجم الاعتداءات التي قامت بها إسرائيل حتى شهر تموز الماضي ضد سورية 100 ضربة خلال خمس سنوات. هذا ما اعترف به أمير إيشيل قائد سلاح الطيران الإسرائيلي في لقاء مع صحيفة "هآرتس"، عندما كان يسلّم قيادة السلاح لخليفته عميكان نوركين.
خلال العام 2017، كانت المعارك في سورية تتجه نحو نهايتها لصالح الدولة السورية والمحور المعادي لإسرائيل في المنطقة، ويشهد تزايداً للحضور الإيراني في سورية، وهو ما كان مدعاة للقلق في إسرائيل عبرت عنه أكثر من مرة، خصوصاً تصريحات رئيس الوزراء الإسرائيلي الذي زار سوتشي سبع مرات خلال العام الأخير، حيث مقر الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، في محاولة لإيجاد حل لهذا الحضور القوي، وكانت إسرائيل وجهت قبل أسابيع ضربة لقاعدة قالت: إنها قاعدة إيرانية، قتلت خلالها أحد عشر مقاتلاً إيرانياً.
سورية، في العام الأخير، كانت تشعر بقوة أكبر نتاج حسم كثير من الجبهات هناك، فقامت في شهر أيار الماضي بالرد على إحدى الغارات الإسرائيلية بصواريخ وصلت إلى حدود القدس.. لم تصب أي من الطائرات آنذاك، وأبلغت سورية قبل أسابيع الرئيس الروسي بأنها سترد على أي ضربة إسرائيلية، وجرى الاعتقاد حينها أنها ستطلق صواريخ سكاد تجاه إسرائيل، ويبدو أن إشعار روسيا كان حقيقياً وأن القرار هناك أصبح يتخذ على مستوى القيادات السورية الإيرانية بشراكة "حزب الله".
إسرائيل ومنذ لحظة إسقاط الطائرة دخلت في سلسلة اجتماعات بوزارة الدفاع في تل أبيب في الخندق المسمى "البئر"، وليس في مكاتب الوزارة التي تعقد فيها الاجتماعات، وهذا مصمم لاجتماعات الطوارئ في حالة الحرب، ما يعكس ارتباك اللحظة في الدولة التي تجتمع في البئر وترسل رسائل طلب التدخل من قبل روسيا والولايات المتحدة، وأنها ليست معنية بالتصعيد، وتشرح الحادث باعتباره فعل وردة فعل، كأن عدوانها جاء رداً على طائرة إيرانية مسيّرة اخترقت الأجواء الإسرائيلية وأسقطتها مروحية إسرائيلية.
من يعرف إسرائيل جيداً ويعرف تركيبة الحكومة يمكن أن يفهم لماذا سارت الأمور على هذا النحو، ومن يعرف شخصيتي رئيس الوزراء ووزير الدفاع يدرك أنهما الأقل كفاءة في إدارة اللحظات الصعبة والأقل قدرة على اتخاذ قرار الحروب؛ فهما الأقل شجاعة في الطاقم الحكومي القائم وهنا ألقيت عليهما فجأة وطأة اللحظة التي لم يتوقعانها على الإطلاق ولم يهيئا نفسيهما لاتخاذ قرار على هذه الدرجة من المسؤولية، فالحرب على الشمال ليست نزهة ولا تشبه إطلاقاً الحرب على الجنوب في غزة؛ فالمعادلات وموازين القوى مختلفة تماماً.
نتنياهو وليبرمان هما الأعلى صوتاً والأكثر تهديداً، ومنذ أن وصل نتنياهو للحكم في المرة الثانية عام 2009 وهو لم يتوقف عن التهديد والصراخ والوعيد ضد إيران وسورية و"حزب الله" كأنه طوال سنوات كان يقول: "أمسكوني وإلا ضربت"، خاصة تجاه إيران، لكنه لم يفعل شيئاً سوى استغلال انشغال سورية بمعاركها مع المجموعات المسلحة المدعومة خليجياً وإسرائيلياً ليوجه ضربات إلى مواقع سورية، ومع نجاح أولى الضربات تحولت تلك إلى لعبته الاستعراضية الجميلة.
الحرب ضد سورية ليست سهلة لأن "حزب الله" يقف على الجدار و"حزب الله" أقوى بما لا يقاس به عام 2006، لكن بعد حرب سورية وتدريباته العملية وما نقله من سلاح خلال السنوات الماضية من أسلحة مخلة بالتوازن كماً ونوعاً، وفي إطار حسابات السياسة يتميز نتنياهو بقدرته الفائقة على حسابات البقاء التي تفوق أي حسابات أخرى لديه، لأنه يدرك تماماً أن الحرب السابقة مع "حزب الله" التي تمت دون أي مشاركة سورية وإيرانية عام 2006 أطاحت بالمستقبل السياسي لكل الذين اتخذوا قرار الحرب وشاركوا فيها، بدءاً من رئيس الوزراء أيهود أولمرت ووزير الدفاع عمير بيرتس ورئيس الأركان دان حالوتس الذي لم يمض عشرين شهراً في القيادة لينزوي عن العمل السياسي بلا رجعة.
نتنياهو حاول التخفيف من الصدمة فمنع وزراء الحكومة من الحديث حول إسقاط الطائرة، وقد بدأت الاتصالات لتهدئة التوتر، وتلك نصيحة تلقاها من التقدير السريع الذي قدمه الجيش والمؤسسة العسكرية التي تعرف تماماً إمكانيات الطرف الآخر خلف الحدود. ولكن المشهد، الذي لن تنساه الذاكرة الإسرائيلية وهي ترى طائرتها تحترق وسلاحها الجوي يعود جريحاً، سيمس كثيراً هيبة إسرائيل وقوتها الردعية التي منعت كثيراً من الحروب والهجمات ضدها كما قال الرئيس الإسرائيلي السابق شمعون بيرس، فإن إسرائيل بذلك تفقد جزءاً من هذه القوة.. فهل تستطيع تل أبيب ابتلاع هذا المشهد؟
قد يبتلعه نتنياهو مرغماً أو الجيش نتاج حسابات كبيرة، فالميدان مشتعل كثيراً والحرب ليست سهلة، ولكن هل تحتمله هيبة إسرائيل والرأي العام الذي ينام مطمئناً فقط، لأن لديه سلاح جو قادراً على الوصول لأي نقطة في الوطن العربي من سورية حتى السودان.
أغلب الظن أن إسرائيل ستعوض ذلك من خلال ضربات لاحقة ومكثفة على سورية تكون فيها أكثر حذراً لتتفادى أي خسائر في صفوفها؛ لترميم الصورة التي أصيبت بالكسر والحرق، ولكن هل هذا ممكن لدى الرئيس السوري ومحوره الذي تلقى دفعة معنوية كبيرة بعد إسقاط الطائرة أمس؟ إذن المسألة ستتحرك على صفيح ساخن جداً ولا تحتمل مغامرات أكبر؛ لأن الانفلات قد يحدث في أي لحظة ومشكوك في أن نتنياهو ليبرمان يسعيان إليه؛ لأنه سيضع مستقبلهما على المحك.
ولكن ربما أن الانتقام الإسرائيلي سيأتي من خلال الولايات المتحدة التي باتت تحتل 38% من الأراضي السورية، وقد حدث اصطدام مع الجيش السوري قتل فيه الجيش الأميركي أفراداً من الجيش السوري، ومع معرفة الجميع باللوبي اليهودي المسيطر على البيت الأبيض، وهو الثلاثي المؤيد لإسرائيل العامل في الملف الفلسطيني، يمكن استنتاج أن الولايات المتحدة هي من سيتكفل بالانتقام، وربما نسمع لغة أميركية جديدة قريباً أو توسيع مساحة الأراضي التي يحتلها الجيش الأميركي.. إسرائيل تعرف موازين القوى وليست مستعدة لتحمل وابل صواريخ نحو مدنها، لذا فإن معركة الانتقام ستكون على الأراضي السورية.. هذا الخيار هو الأكثر ترجيحاً..!