في ليلةٍ من ليالي تشرين الباردة، تسلل صهيب المسالمة إلى غرفته خفيةً عن عيني أمه الخمسينية، على سريره الخشبي ألقى بجسده المثقل بـ"الهم"! وضَعَ نتائج فحوصاته الطبية على طاولةٍ قريبة, ثم راح يقذف بالأغطية الثقيلة واحدًا تلو الآخر مناشدًا جسده المرتعش أن يهدأ.

مرارًا وتكرارًا.. تعالى المسالمة على دمعه وهو يحاول أن يقنع نفسه بأن هذا ليس إلا "حلم عابر".. تمتم بقهر: "أنا.. لا.. سرطان.. لا" لم يعرف حينها ماذا يفعل؟ أيخرج ليخبر أمه "جبل المحامل" بالخبر فتكون الضربة الثانية على رأسها في غضون أشهر، أم يواصل البكاء وحده في غرفته التي أضحت ضيقةً على همّه فجأة؟.

مع بدء تمتمات أذان الفجر الأولى من مآذن حي شعفاط الملاصق لبيت الله المقدس، حيث يسكن، اتخذ صهيب أحمد المسالمة قراره: "سأواجه هذا المرض بعون الرحمن الرحيم"، فهل أنتصر؟ ومتى علمت جبل المحامل بالخبر ماذا سيحل بها؟!.

قبل تاريخ 24/11/2014م نشط صهيب في تغطية الأحداث الميدانية داخل العاصمة المحتلة وأسس بنفسه مركز "طقس القدس" للأرصاد الجوية، وفي خضم خوضه صراعات الحياة طولا وعرضا بدأ الشاب يشعر بحالات تعب مضاعفة وتغير في مزاجه ولون وجه وبروز ورم غير عادي في جانبه الأيمن من البطن.

يكمل هو بالقول لصحيفة "فلسطين": "ذهبت في بداية الأمر إلى المستشفى لإجراءات فحوصات روتينية دون نتائج تذكر، ولكن في ذلك التاريخ اشتد الألم, فذهبت إلى أحد الأطباء المختصين بالأمراض الوقائية, وبعد سلسلة فحوصات مخبرية قدم الطبيب احتمالات تفسر تلك المتغيرات".

اتفق الاثنان على إجراء تشخيص مصور للورم الذي بدأ يكبر ويتصلب ويوجع جسد صهيب، ومن خلال صورة لـ"dobler" تبن أن لدى الأخير تهيجًا نسيجيًا لم يعرف أهو حميد أم خبيث، الأمر الذي دفع بالدكتور إلى مطالبته بإجراء صورة طبقية أخرى لمعرفة ماهية ذلك الورم.

رفض صهيب إجراء تلك الصورة مخبرًا طبيبه بشعوره أنه مصاب بالسرطان وخبيث أيضًا! حينها صمت الطبيب ثم جال بنظراته أرجاء الغرفة قبل أن يقدم إجابة تقطع الشك باليقين: "نعم يا بطل أنت مصاب بالسرطان, لذلك قررنا إجراء عملية جراحية عاجلة لإزالة الورم أولًا والتأكد من طبيعته".

ابتسامة عريضة تظهر فجأة على وجه المسالمة، قائلًا: "بطل يا دكتور.. ممم أتريد أن تدعمني نفسيًّا.. لا تقلق حياتي ستكون طبيعية وسأجري تلك العملية دون أن يعلم بها أحد، متفقون يا دكتور؟"، جاءه الرد حالًا: "حسنًا يا صهيب وسنحدد الآن الموعد".

تشخصيه

في صباح يوم الأربعاء السابع عشر من فبراير لعام 2015 خضع صهيب لعملية جراحية في مجمع فلسطين الطبي استمرت لست ساعات متواصلة، لاستئصال الورم الذي أرسل فور إزالته إلى مختبر طبي لتشخصيه جيدًا، وكذلك أجرى الشاب فحوصات أخرى لمعرفة إذا كان هناك انتشار للورم في مناطق أخرى.

"وما هو المطلوب الآن.. جرعات كيماوية أليس كذلك"، سؤال وجهه صهيب إلى الدكتور بعدما علم بنتائج الفحوصات التي وصلت إلى العيادة بعد أسبوع من إجراء العملية، والتي أثبت أن الشاب لديه ورم سرطاني يبلغ قطره 11 سم بوزن 410 جرامات داخل كيس منعزل وحوله مياه تسمى "المح".

هنا.. ابتسم الطبيب لابن القدس مخاطبًا إياه بكلمات رنانة: "يا ريت كل الناس لديهم هذه الإرادة والعقل والوعي الذي تمتلكه"، مضيفًا: "ستحتاج إلى ثلاث جرعات من العلاج الكيماوي ومبيت مغلق في المستشفى على مدار ثلاثة أشهر.. شافاك الله".

قراءة صهيب للنتائج قبل أن يطلع عليها الدكتور ثم قوله للأخير: "أنا قرأت كل شيء.. مش زعلان والله", لم تكن بمفردها دليلًا على جدية صهيب بمواجهة السرطان، بل إلى جانب ذلك تحمل بنفسه دفع التكاليف المالية الكبيرة لجميع الفحوصات السابقة تجنبًا للانتظار الطويل في طابور المستشفيات العامة.

خرج صهيب من العيادة مصطحبًا ورقة نتائج الفحوصات المرفقة أيضًا بموعد أولى جلسات العلاج الكيماوي وبخطوات مثقلة وصل إلى منزله ليجهز نفسه للمبيت في المستشفى وليبلغ أمه بالخبر الذي أخفاه طوال الفترة الماضية عن الجميع.

تسابيح

يتحدث المسالمة عن ذلك الموقف بالقول: "أخبرت أمي بهدوء وطمأنتها أن حالتي ليست خطيرة ولكن أحتاج إلى جلسات علاجية وبعض الراحة"، مضيفًا: "فور سماعها بالخبر أخذت بيدي إلى عيادة الدكتور لتغرقه بسيل من الأسئلة حول طبيعة مرضي وكيفية العلاج، ولكني أوقفت استفساراتها باستحضار ابتسامة الرضا إلى وجهي".

الطريق الواصلة بين منزل المسالمة ومستشفى بيت جالا للأورام قصيرة جغرافيًا، ولكن وفق حسابات الموت والنجاة طالت كبعد المشرق عن المغرب.

ومنذ أن وطئ صهيب بأقدامه مدخل المستشفى حتى مغادرته منتصف العام الماضي 2015، كانت الابتسامة وتسابيح الحمد ترافقه، حتى بات محط إعجاب للطاقم الطبي ومصدر تفاؤل للمرضى.

وعن تفاصيل رحلة العلاج، يحدث "فلسطين": "أخذت 42 جرعة كيماوي على مدار ثلاثة أشهر، وفي الجلسة الثانية بدأ شعري يتساقط وفقدت نحو 20 كيلوجرام من وزني، ولكن تكيفت تمامًا مع العلاج مستفيدًا من قراءتي المسبقة عن مرض السرطان وآليات وأعراض العلاج، مؤمنًا أن الذي يحدث لي هو شيء عابر سأتغلب عليه بقوة الله".

ويضيف: "بعد الجلسة الثالثة عرض عليّ العلاج والدعم النفسي الذي يخضع له مرضى السرطان عادة، ولكن رفضت ذلك وبشدة، وبسبب ردي الإيجابي حضر وفد إيطالي طبي لكي يتعرف علي عن قرب، كوني استطعت التكيف مع العلاج دون استسلام".

الانتصار

تتابعت الانتصارات سريعًا: "هناك استجابة سريعة لجسدك مع العلاج إن بقيت هكذا ستخرج قبل نهاية هذا الأسبوع"، يخاطب الدكتور صهيب، ثم يضيف له: "العلاج الأساسي انتهى ولكن ستبقى تحت المتابعة الطبية لقرابة العام".

في تلك اللحظة، عاد الصراع الذاتي إلى بطل حكايتنا متسائلًا: "لماذا فحوصات ومتابعات دورية.. هل ما زال المرض بي؟ هل سأرى الموت ثانيًا؟!", طمأن الدكتور فؤاد صهيب بأن هذه إجراءات روتينية يخضع لها المنتصرون على المرض حتى التأكد تمامًا من شفائهم.

وبعدما خضع على مدار عام لعدة فحوصات أثبت أن جسده يخلو من أي أثر للمرض، حان له الآن أن يتحسس مكان الوجع ويحدث مراسل "فلسطين" كيف أصبح؟

"إيييه يا عبد الرحمن.. بفضل الله انتصرت وتلاشت الآلام، ولكن هل تتخيل أني لا أقوى على رفع كل ذي ثقلٍ؛ حرمت من ممارسة كرة القدم التي أحببتها منذ الصغر.. نصحني الدكتور بالبحث عن شريكة الحياة مبكرًا لكي لا أحرم من نعمة الإنجاب في السنوات القادمة بفعل تأثيرات الكيماوي".

يزيد: "خسرت كل المال الذي كنت قد جمعته للزواج، هذا لا يهمني فالمال يعوض أما الجسد؟! ..أغرق لساعات طويلة في النوم بحثًا عن الراحة لجسدي وبعد كل هذا أؤكد مجددًا.. أنا لم أرضخ.. أنا لم أستسلم".

مرةً أخرى، تعالى صهيب على أوجاعه الخفية وخرج من المستشفى بخطوات المنتصر قائلًا لمن بقي يصارع الموت على الأسرة البيضاء: "المرض لا يقتل إنما أنت تقتل نفسك إن سلمت إرادتك له .. فليس بالخبز وحده يحيا الإنسان إنها بالعزيمة أيضًا".

وينشط صهيب حاليًا في عدة مبادرات مجتمعية تهتم بدعم مرضى السرطان والتوعية بأسبابه وضرورة الكشف المبكر عنه، مخططًا في الوقت ذاته لإنجاز فيلم قصير يلخص فيه تجربته التي استمرت لعاملين كاملين.

المصدر : صحيفة فلسطين