نجت رئيسة الوزراء البريطانية "تيريزا ماي" من تصويتٍ على مذكرةٍ بحجب الثقة عن حكومتها، تقدمت بها المعارضة العمالية، عقب هزيمتها في مجلس العموم البريطاني "الغرفة السفلى من البرلمان" في التصويت على اتفاق الخروج من الاتحاد الأوروبي، فقد صوتت غالبية ساحقة ضد الخطة التي توصلت إليها "ماي" مع الاتحاد الأوروبي، لضمان خروج سلس لبريطانيا منه؛ إذ صوّت 432 نائبًا ضد الاتفاق مقابل 202 صوّتوا لصالحه.
وتمثلت المفاجأة في وقوف عدد كبير من نواب حزب المحافظين نفسه ضد خطة رئيسة الحكومة، فانضم 118 نائبًا منهم إلى المعارضة في رفض الاتفاق، وهو ما يمثل أسوأ هزيمةٍ تُمنى بها حكومة بريطانية منذ الأزمة المالية العالمية عام 1929.
واستغل زعيم حزب العمال المعارض "جيرمي كوربن" الفرصة لتقديم مذكرة حجب الثقة عن الحكومة في محاولة لإسقاطها.
وأصبح مستقبل بريطانيا السياسي ووضعها الاقتصادي موضع تساؤلٍ، في ضوء عدم وضوح كيفية الخروج من الاتحاد الأوروبي، ومع ذلك ميّز المحافظون بين الموقف من معارضة خطة "ماي" ودعم حكومتها.
كيف وصلت الأزمة إلى هنا؟
بعد سنواتٍ من مقاومة ضغوطٍ شعبيةٍ وسياسيةٍ لإجراء استفتاء لتقرير مستقبل عضوية بريطانيا في الاتحاد الأوروبي، دعا رئيس الوزراء البريطاني السابق "ديفيد كاميرون" في 23 حزيران/ يونيو 2016، البريطانيين إلى أن يدلوا بأصواتهم بهذا الشأن، معتقدًا أن الغالبية تدعم البقاء في الاتحاد، وجاءت النتيجة صادمة؛ إذ صوّت نحو 52% من المقترعين لصالح الخروج من الاتحاد الأوروبي، وذلك بعد حملة وصفت بأنها حملة تجهيل وشعبوية، لم توضح للناس آثار الخروج ونتائجه. وعلى الأثر، قرّر كاميرون تقديم استقالته لتخلفه وزيرة الداخلية في حكومته، تيريزا ماي، وتبدأ رحلة التفاوض مع الاتحاد الأوروبي على شروط الخروج.
التزمت ماي تنفيذ إرادة الناخبين بأقل الأضرار الممكنة، على الرغم من أن موقفها الأصلي كان ضد الخروج. وبدأت عملية التفاوض التي استغرقت نحو عامين بتفعيل المادة 50 من معاهدة لشبونة التي تحدّد سبل انسحاب إحدى الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي. (كان قادة الاتحاد الأوروبي توصلوا إلى هذه المعاهدة في تشرين الأول/ أكتوبر 2007 في لشبونة، ودخلت حيز التنفيذ في كانون الأول/ ديسمبر 2009).
تنص المادة 50 التي جاءت في خمس فقرات رئيسة على أن تحيط أي دولةٍ عضو ترغب في الخروج من الاتحاد الأوروبي المجلس الأوروبي علمًا بذلك، وتتفاوض لتتوصل إلى اتفاق على الخروج خلال مدة لا تتجاوز السنتين من تاريخ الإبلاغ رسميًا برغبتها تلك، إلا في حال موافقة جميع الدول الأعضاء الأخرى على التمديد لها عند الطلب. وتنص المادة أيضًا على أن يحظى أي اتفاق للخروج بـ "أغلبية مشروطة" (أي 72% من الدول الأعضاء الـ 27 الأخرى في الاتحاد الأوروبي، أو ما يمثل 65% من سكان دول الاتحاد)، وتأييد نواب البرلمان الأوروبي أيضًا. وتطرقت الفقرة الخامسة من المادة إلى إمكانية عودة الدولة التي قرّرت الخروج من الاتحاد الأوروبي عن قرارها، من دون الحاجة إلى موافقة الدول الأعضاء. وكانت ماي قد طلبت تفعيل المادة 50 اعتبارًا من نهاية آذار/ مارس 2017، أي إنّ مهلة التوصل إلى اتفاق تنتهي في آخر آذار/ مارس 2019، وهو أمر بات الآن مستبعدًا، بعد أن رفض البرلمان خطة الخروج.
لماذا رفض البرلمان الخطة؟
يضمّ مجلس العموم البريطاني 650 مقعدًا، يحتل حزب المحافظين الحاكم 317 مقعدًا منها، أي أقل من الأغلبية المطلقة بثمانية أصوات، وكان الحزب قد خسر أغلبيته البرلمانية في انتخابات 2017، فاضطر إلى التحالف مع حزب الوحدويين الديموقراطيين الإيرلندي، وهو الحزب الأيرلندي الذي يدعم التاج البريطاني والذي له عشرة مقاعد في البرلمان. ولكن ماي خسرت التصويت بأغلبية كبيرة، على الرغم من امتلاكها أغلبية بسيطة (327 مقعدًا)، وذلك بسبب رفض الحزب المؤتلف معها الاتفاق، وغياب التجانس داخل حزب المحافظين، بخصوص اتفاق بريكست، إضافة إلى محاولة بعض خصوم ماي في الحزب استغلال هذا الوضع، ليقوّض سلطتها، ويتولى رئاسة الحكومة بدلًا منها. ويعني ذلك أن دعم خطة ماي اقتصر، في حقيقة الأمر، على الكتلة الرئيسة في حزب المحافظين التي تنفذ عادة تعليمات قيادة الحزب بانضباط تام، ويتولى أغلب هؤلاء المناصب الحكومية، وجزء منهم نواب من حزب المحافظين الإسكتلندي.
تتعدّد أسباب رفض البرلمان البريطاني خطة ماي، بحسب مواقف القوى السياسية المختلفة من القضية؛ فالمتشددون في تأييدهم الخروج من الاتحاد الأوروبي داخل حزب المحافظين الحاكم، وعددهم نحو 90 نائبًا (يطلق عليهم اسم "مجموعة الأبحاث الأوروبية"، برئاسة جاكوب ريس موغ، وتشمل أيضًا وزير الخارجية السابق بوريس جونسون ووزير بريكست السابق ديفيد ديفيس)، يرفضون خطتها، لأنها تنتقص، برأيهم، من سيادة بريطانيا، فهي تُبقي كامل بريطانيا في الاتحاد الجمركي مع الاتحاد الأوروبي، وفق ما تسمى "خطة المساندة"، من دون إمكانية انسحابها منها أحاديًا، على نحوٍ يعني عدم قدرة بريطانيا على إبرام اتفاقياتٍ تجاريةٍ خاصة بها مع أطراف ثالثة، لالتزامها معايير الاتحاد الأوروبي، ولأنها تبقي الحدود مفتوحةً بين إيرلندا الشمالية الواقعة تحت الحكم البريطاني والجمهورية الإيرلندية، وذلك ينتقص، برأيهم، من السيادة البريطانية على كامل التراب البريطاني.
ورفضت أقليةٌ من حزب المحافظين، يقدّر عددها بعشرة نواب، الاتفاق، سعيًا وراء بريكست مخفف، أو صيغةٍ معدلةٍ عن النموذج النرويجي مع الاتحاد الأوروبي؛ أي أن تغادر بريطانيا النادي الأوروبي، لكنها تبقى في الاتحاد الجمركي والسوق المشتركة. وتأمل هذه الكتلة في التوجه نحو استفتاء ثانٍ على بريكست، في حال فشل سعيها إلى صيغة خروج مخففة، وتطمح إلى أن يؤدي ذلك إلى بقاء بريطانيا في الاتحاد الأوروبي.
أما الوحدويون الديموقراطيون الإيرلنديون، حلفاء ماي في الحكومة، فقد رفضوا دعم خطتها، خوفًا من أن تكون خطة المساندة التي تنص على بقاء الحدود مفتوحةً بين إيرلندا الشمالية والجمهورية الإيرلندية خطوة أولى نحو فصل إيرلندا الشمالية عن المملكة المتحدة. كما يخشى هؤلاء، في حال خرجت بريطانيا من دون اتفاقٍ مع الاتحاد الأوروبي، أن تعود الحدود بين إيرلندا الشمالية والجمهورية الإيرلندية، وما يترتب عليها من تبعاتٍ سلبيةٍ كبيرةٍ على اقتصاد الجزيرة واستقرارها.
أما حزب العمال المعارض الذي يمتلك 257 مقعدًا في مجلس العموم، فقد صوّت بالإجماع ضد الاتفاق، على الرغم من عدم تجانسه أيضًا في الموقف من بريكست؛ فجزء منه ملتزمٌ خط زعيم الحزب الذي يقول باحترام إرادة الشعب، والجزء الأكبر يؤيد البقاء في الاتحاد الأوروبي، ومنهم أيضًا من صوّتت دوائره لصالح مغادرة الاتحاد، إلا أن هذه المجموعات المختلفة تجمع على أن خطة ماي ليست في صالح بريطانيا. والحقيقة أن ما يوحّدهم هو اعتبارات سياسية متعلقة بإفشال الحكومة. ولم يعلل حزب العمال تصويته بالخروج أو معارضته، بل برّره بأن الاتفاقية لا تحقق شروطه التي يتمثل أهمها في ما يلي:
• أن تستمر علاقة تعاون مستقبلية قوية بالاتحاد الأوروبي.
• أن تستمر المزايا التي تحظى بها بريطانيا حاليًا من خلال عضويتها في السوق الموحدة والاتحاد الجمركي.
• أن تستمر إدارة قضايا الهجرة إدارةً عادلة، وتحقق مصلحة الاقتصاد والمجتمع.
• أن تحقق الأمن ومعالجة الجريمة العابرة للحدود
• أن تعود اتفاقية الخروج بالنفع على مناطق بريطانيا وأقاليمها بالتساوي.
لا يرى حزب العمال أنّ الاتفاقية التي توصلت إليها ماي تحقق هذه الشروط. لذلك صوّت ضدها. أما الأحزاب الأخرى في البرلمان، وتشمل القوميين الأسكتلنديين (35 صوتًا)، والديمقراطيين الأحرار (11 صوتًا)، وحزب ويلز (4 أصوات)، والخضر (صوت واحد)، فقد عارضوا خطة ماي، لأن هذه الأحزاب تدعم علنًا إلغاء بريكست، والبقاء في الاتحاد الأوروبي. وكانت إسكتلندا قد صوّتت أصلًا لصالح البقاء في الاتحاد الأوروبي في استفتاء عام 2016.
ماذا بعد فشل تمرير الاتفاق؟
فشلت رئيسة الوزراء البريطانية في تمرير خطتها في البرلمان، ونظرًا إلى تداعيات ذلك على مستقبلها السياسي، فهي تقف أمام عدة سيناريوهات؛ منها أن تبحث مزيدا من التنازلات التي ربما يقدمها الجانب الأوروبي، بعد تيقّنه من وجود أغلبيةٍ برلمانيةٍ تعارض الخطة. لكن هذا الاحتمال ضعيف، في ضوء صعوبة تأمين موافقة جميع الدول الأعضاء على اتفاقٍ جديد، فضلًا عن عدم وجود ضماناتٍ بموافقة البرلمان البريطاني على هذا الاتفاق عند التوصل إليه، خصوصًا بعد هزيمة رئيسة الحكومة، وتمرد نحو ثلث أعضاء حزبها على قيادتها. أما السيناريو الآخر فيتمثل في أن تتجه رئيسة الحكومة إلى استفتاءٍ ثانٍ حول الخروج من الاتحاد الأوروبي، أو حتى انتخاباتٍ عامة مبكرة. لكن هذا السيناريو يحتاج موافقة أغلبية في البرلمان على إجرائه، وهو أمر غير مؤكد. وفي كل الأحوال، تحتاج ماي إلى طلب تأجيل فترة التفاوض مع الاتحاد الأوروبي، وتمديدها، ليتاح لها مزيد من الوقت، وتتوصل إلى اتفاق أفضل، وهذا يتطلب موافقة جميع الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي. وبوسع ماي أيضًا أن تسحب طلب الانفصال عن الاتحاد الأوروبي، وقد قضت محكمة العدل الأوروبية بأنّه يحق لها ذلك، من دون موافقة الدول الأخرى الأعضاء في الاتحاد الأوروبي. لكن ماي ترى أن هذا الخيار غير وارد، لأنه يعني تحدي إرادة الشعب، وتوجيه ضربة في الصميم إلى الديمقراطية البريطانية التي نتج منها قرار الخروج. وتستثني ماي حتى الآن احتمال المضي في الانفصال من دون اتفاق، وهو الاحتمال الأخطر على الاقتصاد البريطاني.
خاتمة
وضع قرار البرلمان البريطاني رفض التصديق على خطة الخروج من الاتحاد الأوروبي رئيسة الحكومة، تيريزا ماي، أمام سيناريوهات صعبة التحقق، كما وضع بريطانيا أمام أزمة كبرى، عنوانها الرئيس فقدان الثقة بمستقبل البلاد واقتصادها الذي يتوقع أن يتراجع هذا العام إلى المرتبة السابعة عالميًا، في حين تتزايد الشكوك في قدرة بريطانيا على مواجهة تحدّيات الخروج من الاتحاد الأوروبي، أو حتى التراجع والبقاء فيه؛ إذ إن بريكست طرح أسئلةٍ مهمةٍ، يتعيّن على بريطانيا أن تواجهها وتتعلق بوجوب إعادة تعريف هويتها الوطنية من جديد، لا سيما أن الانقسام بين العمال والمحافظين، ليس الوحيد في الحياة السياسية البريطانية؛ فالخلاف على بريكست يبرز انقساماتٍ إقليميةً وجيليةً وثقافيةً واجتماعيةً متعدّدة، ربما تزيدها الأوضاع الاقتصادية الصعبة المرتقبة، حدةً. ومن خلال الصراع الذي تشهده بريطانيا حول بريكست، تتضح أيضًا مخاطر الشعبوية على الديمقراطية؛ فقد أسهمت الشعبوية في إنتاج قرارٍ بالاستفتاء الشعبي تدرك غالبية المصوتين حاليًا أنه كان خاطئا وصعب التنفيذ. كما أن الشعبويين في السياسة يفتقرون إلى المسؤولية اللازمة، لينفذوا قرارًا يتحمّلون مسؤوليته إلى حدٍ بعيد.
المصدر : الوطنية