أيام قليلة وتنطلق أيام العشر الأوائل من ذي الحجة، والتي تعتبر موسم للطاعات يتسابق من خلالها المسملين لاغتنام كل دقيقة فيها بالأعمال الصالحة.

خطبة عن فضل العشر من ذي الحجة ملتقى الخطباء :-

ن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، مَن يهده الله فلا مُضِلَّ له، ومَن يُضلِلْ فلا هاديَ له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، جَلَّ عن الشبيه والمثيل والكفء والنظير.

وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، وصفيُّهُ وخليلُه، وخيرتُه من خَلقِه، وأمينه على وحيه، أرسله ربُّهُ رحمةً للعالمين، وحُجَّةً على العباد أجمعين، فهدى الله تعالى به من الضلالة، وبصَّر به من الجهالة، وكثَّر به بعد القِلَّة، وأغنى به بعد العَيْلة، ولمَّ به بعد الشتات، فصلوات الله وسلامه عليه، وعلى آله الطيبين، وأصحابه الغُرِّ الميامين، ما اتصلت عينٌ بنظَر، ووعت أذن بخبر، وسلّم تسليما كثيرا.

أما بعد:

أيها الإخوة الكرام: الحمد لله القائل لما ذكر جل وعلا خلقه في عباده قال سبحانه وتعالى عن تفضيله جل وعلا بين الناس في الخلق وتفضيله بعض الأيام على بعض، وتفضيله بعض الأشهر على بعض، قال سبحانه وتعالى (وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ) [القصص:68].

فخلق الله تعالى الملائكة فاختار منها جبريل ليكون أفضلها، وخلق الله تعالى البشر فاختار الأنبياء ليكونوا هم أفضلَهم، واختار الله تعالى الشهور فاختار منها رمضان ليكون هو أفضلها، وخلق الله تعالى الأيام فجعل هذا اليوم وما بعده مِنْ أيامٍ هي أفضلها؛ ففي حديثٍ رواه البزار عن جابر -رضي الله تعالى عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "أفضل الأيام عند الله أيام العشر".

وفي حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما الذي أخرجه البخاري ومسلم، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "ما مِن أيامٍ العملُ الصالحُ فيهنَّ أحبّ إلى تعالى من عشر ذي الحجة"، العمل الصالح عموما، من ذكر لله تعالى، أو صدقة على الفقراء والمساكين، أو بِرٍّ للوالدين، أو صلةٍ للأرحام، أو صلاةٍ، أو صيامٍ، أو قيامٍ، أو جهادٍ، أو حجٍّ، أو عمرةٍ، إلى غير ذلك من أنواعه. قال: "ما من أيامٍ العملُ الصالح فيهنّ أحب إلى تعالى من عشر ذي الحجة"، قال الصحابة: يا رسول الله، ولا الجهاد في سبيل الله؟.

وقد كان متقررا عندهم، كما هو متقرر عندنا، أن الجهاد هو ذروة سنام الإسلام، وأنه ما تقرب عبد إلى الله تعالى بعد تلفظه بالشهادتين بأفضل من أن يتقرب إلى الله تعالى بإراقة دمه في سبيل الله، قال الصحابة: يا رسول الله، ولا الجهاد في سبيل؟ فهم كانوا يسمعون الأحاديث والآيات في فضل الجهاد، قالوا: ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال: "ولا الجهاد في سبيل الله"، يعني أن العمل الصالح في هذه الأيام لا يعدله حتى لو خرج إنسان مجاهدا، فأيام ذلك المجاهد هي أقلُّ أجراً، وهي أنزل فضلا من المتعبد في هذه العشر.

ثم اشترط النبي -صلى الله عليه وسلم- شرطا، واستثنى حالة، فقال -صلى الله عليه وسلم-: "ولا الجهاد في سبيل الله، إلا رجل خرج بنفسه وماله"، خرج بنفسه، وأخذ ماله، خرج بنفسه وماله، "ثم لم يرجع من ذلك بشيء"، بذَلَ نفسَهُ وبذَلَ ماله لله -عز وجل-، وقلةٌ من المجاهدين مَن يأخذ أمواله معه، فإنهم في الغالب يخرجون بأجسادهم للجهاد في سبيل الله، وهناك من يتولى نفقتهم، أو أنهم ربما تركوا أموالهم وأخذوا بعضها نفقة، فقال -عليه الصلاة والسلام-: لا يفضل المجاهد الخارج في سبيل الله، لا يفضل في عمله، عمل الذي هو قاعدٌ لكنه يتعبد في العشر، إلا إذا خرج المجاهد بنفسه واستشهد وخرج بماله كله في سبيل الله!.

أيها المسلمون: دل هذا على أن فضل هذه العشر هو أفضل من التعبد في أيام رمضان، لا في لياليه، فإن ليالي رمضان أفضل من ليالي العشر، لكن أيام العشر، ما بعد صلاة الفجر إلى المغرب هي أفضل من أيام رمضان، بل هي أفضل من جميع أيام العام؛ لما تقدم في حديث جابر -رضي الله تعالى عنه-.

قال الإمام ابن حجر -رحمه الله تعالى-، لما تكلم في فقه حديث ابن عباس، لما قال -عليه الصلاة والسلام-: "ما من أيام العمل الصالح فيهن أحب إلى الله من العشر"، قال الإمام ابن حجر: "وذلك لاجتماع رؤوس العبادات، أو قال أمهات العبادات في هذه العشر"، فإنه يجتمع فيها الصدقة، ويجتمع فيها الصلاة، ويجتمع فيها الحج، ويجتمع فيها الصوم، وهذه الأربعة يستطيع أن يعملها الإنسان خلال هذه العشر؛ أما في رمضان فإنه يستطيع أن يعمل الصلاة، والزكاة، والصيام، لكنه لا يستطيع أن يعمل الحج في رمضان.

وكذلك قُل غير ذلك في غيره من الأيام التي لها فضل، أما في هذه العشر فإن الله -جل وعلا- فضَّلَها فجعلها -سبحانه وتعالى- عشرا ولم يجعلها خمسا، فلو كانت تنتهي في الخامس من ذي الحجة فكان ليس فيها حج، لكنه لما مدها ربنا -جل وعلا- وضمنها يوم عرفة، وهو اليوم العظيم الذي يباهي الله تعالى بعباده يباهي ملائكته، وينظر الله تعالى إلى عباده وهم ما بين متعبد وداعٍ وباكٍ ومنكسر في أرض عرفات، والله -جل وعلا- يباهي ملائكته بهم.

فدخول يوم عرفة في هذه العشر زاد من فضلها، ثم دخول يوم النحر، يوم الحج الأكبر الذي أكمل الله تعالى فيه الدين، وأنزل الشريعة، وجعل النبي -صلى الله عليه وسلم- فيه من الفضائل ما فيه اجتماع هذه الأيام الفاضلات على تنوعها وتنوع العبادات فيها وتفاوتها في الفضل، اجتماعها في هذه العشر يدل على فضلها أيها الإخوة الكرام.

لقد بيَّن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- فضل العشر الأوائل من ذي الحجة، وحث النبي -صلى الله عليه وسلم- على اغتنامها، وحري بالمسلم إذا سمع من نبينا -عليه الصلاة والسلام- الكلام عن فضل شيء من الأعمال أن يؤثر ذلك في عمله، وألا تكون المسألة عندنا فقط معلومات نجمعها دون أن يكون لها تأثير في حياتنا.

ما هو تأثير قول النبي -عليه الصلاة والسلام- لما مدحها فقال: "ما من أيام العمل الصالح فيها أحب إلى الله من هذه العشر"، كيف يؤثر فيك هذا الكلام؟ هل يدفعك فعلا إلى أن تصلي الضحى في هذه الأيام العشر، وتقول: ما دام أن صلاة الضحى في هذه العشر أفضل من صلاة الضحى في غيرها، إذاً فسأكثر فيها من صلاة الضحى وأداوم عليها.

ما تأثيرها عليك في قراءة القرآن؟ بعضنا ربما ختم القرآن في رمضان، ثم مَرَّ عليه الآن أكثر من شهرين وهو لم يختم القرآن مرة أخرى، ما تأثير الحديث الذي مدح هذه العشر عليك؟ هل دفعك إلى أن تقول: والله أنا سأختم القرآن خلال هذه العشر بإذن الله، فأقرأ في كل يوم ثلاثة أجزاء لا تستغرق مني ساعة أو ساعة وربع لأختم القرآن في هذه العشر؛ لأن قراءة القرآن أفضل وأعظم أجراً من قراءتي في غيرها، هل يؤثر فيك هذا الحديث فعلا فيدفعك إلى أن تكثر من قراءة القرآن فيها؟.

هل يدفعك هذا الحديث إلى الصدقة إلى البذل من مالِك؟ كنت في السابق تقف مثلا عند محطة الوقود فتعطيه مثلا عشرين ريالا، وحسابك تسعة عشر، ثم تبدأ تنتظر حتى يرد إليك الريال، في هذه العشر، هل يتحرك شعور الصدقة عندك فتقول له: أبْقِ الريال عندك صدقةً لله تعالى؟.

أو إذا مشيت بسيارتك ثم رأيت العمال البسطاء الذين تصهرهم الشمس صهرا وهم ينظفون الشوارع فذهبت واشتريت ماءً أو عصيراً أو خبزاً، أو اقتربت من أحدهم وتصدقت عليه، سواءً بهذا الطعام أو بمال وتقول في نفسك: يا ربي، لما سمعت نبيك -صلى الله عليه وسلم- يقول: "ما من أيام العمل الصالح فيهن أحب إلى الله من هذه العشر"، يا ربي، أنا أُسرع لأعمل بمحبوباتك ما دام أنك يا ربي تحب الصدقة في هذه العشر أكثر من محبتك لها في غيرها، فانظر إليَّ الآن وأنا أتصدق تقربا إليك يا ربي.

ما دام يا ربي أنك تحب صلاة الضحى في هذه العشر أكثر مما تحبها في غيرها، يا ربي فانظر إليَّ الآن وأنا أقطع عملي وأقوم وأتوضأ وأستقبل القبلة تقربا إليك بما تحبه.

ما دام أنك تمسك المصحف وأنت تعلم أن الله يراك فتقول في نفسك: ما دام أن ربي يحب مني قراءة القرآن الآن في هذه العشر أكثر مما يحبه في غيرها، يا ربي أنا أتقرب إليك بما تحبه، وأنا أعمل بما تحبه يا ربي، ولمـــَّا ذكرت لنا يا ربي أنك تحب شيئا سارعت إليه.

إذاً يا ربي فعامِلْنِي بالحسنى؛ فأنا أحب صلاح ولدي فأصلِحْ ولدي يا ربي، يا ربي أنا أحب البركة في مالي فبارك لي في مالي يا ربي، يا ربي أنا أحب سلامة جسدي من المرض يا ربي فاصنع إلي ما أحب كما صنعت إليك ما تحب؛ فإن الله -جل وعلا- يعامل العبد بمثل ما يعامله العبد به، قال الله -جل وعلا-: (فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ) [البقرة:152]، فمن أراد أن يعامله الله تعالى بأن يذكره في السموات فاذكر الله تعالى أنت في الأرض يعاملك الله بمثل ما تعامله به.

وقال الله -جل وعلا-: (نَسُوا اللَّهَ)، فلما نسوا الله، كيف عاملهم الله؟ (فَنَسِيَهُمْ) [التوبة:67]، نسوا الله فلا يتصدقون ولا يذكرون ولا يتقربون، نسوا أن يتقربوا إلى الله، إنما ذكروا أنفسهم، ذكروا أولادهم، ذكروا زوجاتهم، فينظر ماذا يحب أولاده وماذا يكرهون، ينظر كيف يكثر ماله وكيف يحميه من أن يقل، ينظر ماذا تحب زوجته وماذا تكره، يذكر أولاده إذا دخل السوق، يذكر زوجته يذكر نفسه، لكنه نسي الله فهنا يكون جزاه كما يقول الله -جل وعلا-: (نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ) [التوبة:67].

وقال -سبحانه وتعالى-: (إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا) [الطارق:15]، قال الله ( وَأَكِيدُ كَيْدًا) [الطارق:16]، وقال -جل وعلا-: (وَمَكَرُوا مَكْرًا)، قال الله: (وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ) [النمل:50].

وبيَّن الله -جل وعلا- ذلك في كتابه في عدة مواضع من القرآن، بين الله -جل وعلا- أنه يصنع بالعبد كما يتعامل العبد معه، إلا أن الله تعالى أرحم بالعبد، وأقدر -جل وعلا- على الإحسان إليه، فربما أساء العبد مع ربه ولا يزال الله تعالى يعامله بالإحسان فضلا ومنة وكرما وجودا وإحسانا من ربنا -جل في علاه-.

أيها الإخوة الكرام: والعمل الصالح في هذه العشر عملٌ متنوِّع، من أفضله أن يكثر الإنسان من ذكر الله -جل وعلا-، وهناك ذكرٌ مخصوصٌ، وهو أن يكثر العبد مِن أن يردد قائلا: الله اكبر الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد.

يقولها من بداية أيام العشر من اليوم حتى تنتهي هذه العشر، فإن كان حاجا وأحرم بالحج في اليوم الثامن فيسنّ له أن يكثر من التلبية، لا من هذا التكبير، وإن جمع بينهما فلا بأس، ثم إذا رمى الجمرة يوم العيد، وهي جمرة العقبة الكبرى، فإنه يقطع التلبية؛ لكنه يستمر في التكبير المقيد بعد الصلوات، أو المطلق أيضا، لا بأس به عليه، فأَكْثِرُوا من التكبير، أكثِروا من قول الله: الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد.

وقد كان عمر -رضي الله تعالى عنه- يبكِّر في الذهاب إلى مكة بالحج، ثم يقعد في خيمته في منى يقضي أمور الناس، ويحكم بينهم، ويفصل في خصوماتهم، ويفتيهم في مسائلهم، وهو يبكر من قبل يوم الثامن يذهب إلى منى، فكان -رضي الله تعالى عنه- وهو في خيمته يكبر: الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله، والله أكبر الله أكبر ولله الحمد، فيسمعه الذين خارج الخيمة فيكبرون بتكبيره، يذكِّرهم فيكبرون، قال فيسمعهم الذين وراءهم فيكبرون، حتى ترتج منى تكبيرا.

وكان ابن عمر وأبو هريرة -رضي الله تعالى عنهما- كانوا يخرجون إلى السوق في أيام العشر، ويرفعون أصواتهم بالتكبير، فيسمع الناس تكبيرهم فيكبرون.

اجعل هذه سُنَّةً منشورة بسببك لا مهجورة إذا خرجت إلى السوق أو جئت إلى المسجد أو في أي موطن كنت فارفع صوتك بالتكبير، فإنه نشر للسنة، وتذكيرٌ للناس، وتنبيهٌ للغافل، وتعليمٌ للجاهل، لمن سوف يعجب يقول: لماذا يكبر هذا؟ فيقال له: هذه أيام العشر يُسَن فيها أن يكثر العبد من التكبير، عندها يكبر هذا الإنسان ويكون لك مثل أجره.

فالله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله، والله أكبر الله أكبر ولله الحمد.

أيها الأحبة الكرام: ويستحب للإنسان أن يكثر أيضا من الصدقة في هذه العشر، فإن الله -جل وعلا- يكافئ الإنسان بعمله القليل بأجر كبير، والله -جل وعلا- بين ذلك في كتابه فقال -سبحانه وتعالى-: (وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ) [الرعد:22، فاطر:29]، وهو الرزق من الله تعالى، وكما قال قوم قارون لقارون: (وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ)، ما عنك من مال وما عندك من خبرة وما عندك من قوة ومن علاقات، (وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ) [القصص:77].

وقال الله -جل وعلا-: (وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ) [سبأ:39]، أَكْثِرْ مِن الصدقة قدر استطاعتك.

وأفضل الصدقة كما بيَّن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- الصدقة على ذي الرحم الكاشح، يعني على ذي الرحم الذي ربما يعاملك معاملة سيئة ومع ذلك أنت تتصدق عليه، ربما يكون عندك أخ يعاملك معاملة جافة أو أخت أو عمة أو خالة أو ربما كان أبا أو أما أيضا، كل مَن كان ذا رحم عندك فالسنة أن تقدمه في الصدقة على غيره، فإن كان رحما كاشحا ربما يعاملك معاملة جافة وأنت مع ذلك تحسن إليه فهذا أفضل الصدقة.

قالت أم سلمة -كما في الصحيح- يا رسول الله، أرأيت أني يا رسول الله أني قد أعتقت وليدتي، كان عندها جارية مملوكة وأعتقتها، وفي الإعتاق من الأجر والفضل العظيم الشيء الكثير، يقول -عليه الصلاة والسلام- حثا على إعتاق الرقاب: "من أعتق عبدا لله أعتق الله بذلك العبد كل عضو منه عضوا من معتقه من النار" أو كما قال -عليه الصلاة والسلام-.

فالعتق له فضله، لذلك أمر الله تعالى به كفارة لقتل الخطأ وللوطأ في نهار رمضان ولعدد من الأعمال التي ربما يقع فيها الإنسان فيأمر بالكفارة، فهي تقول: يا رسول الله، أرأيت أو علمت أني قد أعتقت وليدتي، وهي فرحانه بهذا، فقال -عليه الصلاة والسلام- منبها لها إلى عمل هو أفضل من العتق، قال لها: "أما أنكِ لو أخبرتيني"، أنك تنوين أن تخرجيها من ملكك، يعني بالإعتاق أو بغيره، المهم أن تباعديها عنك، "أما انك لو أخبرتيني لأمرتك أن تعطيها أخوالكِ"، يعني أن تبقيها رقيقة مملوكة؛ لكن تحسنين بها إلى أخوالك؛ لأنهم فقراء ويحتاجون إلى من يساعدهم في البيت، فجعل -عليه الصلاة والسلام- الإحسان إلى ذي الرحم والصدقة عليه والهبة له أفضل عند الله تعالى من العتق، مع ما في العتق من الأجر العظيم.

وما أجمل أن يعوِّد الإنسان نفسه أنه إذا رأى مسكينا في الطريق أو عامِل نظافة بادية عليه الحاجة فيحسن إليه، ويعوِّد أولاده على ذلك، يعطي ولده ريالا ويقول: ناديه يا ولدي وأعطيه له، يحرك مثل هذه المشاعر.

والصدقة -أيها الأحبة- ينتفع بها المرء في حياته قبل مماته، وكم من مشكلة وقعت فيها يسر الله حلها بسبب صدقة تصدقت بها يوما! وكم من مصيبة نزلت بك فخففها الله عنك أو رفعها بسبب صدقة تصدقت بها! وكم من ظلمٍ كان سيقع عليك ثم رده الله تعالى عنك بسبب صدقة تصدقت بها! وكم من إنسان كان في كروبات فلما تعرف إلى الله تعالى برحمته لعباده أنزل الله تعالى عليه رحمته.

ونحن نحتاج أيها الأحبة إلى أن نتعرف إلى الله تعالى ببعض الأعمال، حتى إذا وقعت في كربة كذا قلت: اللهم اكشف عني هذه الكُربة بعملي ذاك الذي قدمته بين يديك، "تعرَّفْ إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة".

كم من أشخاص يقيمون في هذه البلد وعندهم أخوة أو أخوات أو أقارب يعلمون أنهم في فقر شديد، ماذا لو أنك خصصت 500ريال أو 600 أو 1000 وبعثت إلى هذا 100 أو 150 أو 200 ريال وقلت هذه هدية بمناسبة العيد، حتى لو كانت من زكاتك إذا كانوا محتاجين؟ يعني زكاتك للعام القادم، لا بأس أن تقدمها الآن خلال هذه العشر؛ توسعة عليهم.

وكذلك الإكثار من قراءة القرآن، وهو الذكر العظيم: (وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ) [الزخرف:44]، هو رفعة لنا ولأمتنا، وما أعز الله تعالى هذه الأمة ورفع شأن العرب عموما إلا لما أنزل هذا القرآن (بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ) [الشعراء:195]، فجعل الأعاجم يتمنى أحدهم لو أتقن لغة العرب وهم أقل عددا من غيرهم، ومع ذلك يتمنون لو تعلموا لغتنا لتلاوة هذا القرآن العظيم (بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ )، (وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ) [الزخرف:44]، رفعة لك ولقومك.

أكثِر من قراءة القرآن، فـــ "مَن قرأ حرفاً من كتاب الله كان له به حسنة، لا أقول: "الم" حرف، ولكن "ألف" حرفٌ، و"لامٌ" حرف، و"ميمٌ" حرف"، والحسنة بعشر أمثالها، أكثر من تلاوة القرآن، ورَبِّ أولادك على ذلك حتى لو جعلت لهم جوائز، المهم أن يشعروا بأن هذه الأيام هي أفضل في القربة إلى الله تعالى من غيرها.

أسأل الله -جل وعلا- أن يعيننا على اغتنام الأيام والساعات الفاضلات، وأن يجعلنا الله تعالى فيها من المقبولين، أستغفر الله العظيم الجليل من كل ذنب فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو الغفور الرحيم.

 

 

الخطبة الثانية:

الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيما لشانه، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه وإخوانه وخلانه، ومن سار على نهجه، واقتفى أثره، واستنَّ بسنته إلى يوم الدين.

أما بعدُ، أيها الإخوة الكرام: ومن أفضل الأعمال في هذه العشرِ الصيامُ، فإن الله -جل وعلا- جعله خاصا به، كما قال -عليه الصلاة والسلام-، يقول الله تعالى: "كُلُّ عملِ ابن آدمَ له، إلا الصوم، فإنه لي وأنا أجزي به، يدع طعامه وشرابه وشهوته من أجلي. للصائم فرحتان: فرحة عند فطره، وفرحة عند لقاء ربه. ولَخلوفُ فمِ الصائم أطيب عند الله من ريح المسك".

وقد جاء عن عائشة أم المؤمنين -رضي الله عنها- كما في الصحيحين أنها قالت: ما رأيت النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- صائما أيام العشر قطُّ، وجاء عن حفصة -رضي الله عنها- ذكَرَتْ أنها رأت النبي -صلى الله عليه وسلم- صائما في أيام العشر، وقد جمع النووي وابن حجر وغيرهم من شُراح الحديث بين الحديثين، حيث إن لأيام عائشة -رضي الله عنها- كانت تسعة أيام أو ثمانية أيام، فربما رأته في العشر في يومها مفطرا، لكنه صام في بقية الأيام.

أيها المسلمون: ومن أحكام هذه العشر أنَّ مَن أراد الأضحية في هذه العشر فإنه لا يأخذ من شعره ولا أظفاره شيئا، لا شعر رأسك ولا من شعرٍ آخر في الجسد، لا يأخذ من شعره ولا من أظفاره شيئا، يحرم ويستثنى من ذلك مَن كان سوف يحُجُّ متمتعا أو قارنا وسوف ينحر هدياً هناك في مكة، فإن الهدي يقوم مقام الأضحية، فإذا كنت سوف تحج قارنا أو متمتعا وسوف تذبح هدياً في مكة فإنك ليس عليك أضحية أصلا، وبالتالي لا بأس عليك اليوم وغدا خلال هذه العشر أن تأخذ من شعرك وأظفارك حتى يدخل عليك وقت الحج وتُحرم، عندها قف عن شعرك وأظفارك. هذه مسألة.

المسألة الثانية: الذي يجب عليه الإمساك هو المسؤول عن الأضحية، الأب، ولو أن الأب وكَّلَ أحد أولاده فيبقى الإمساك واجبا على الأب، إلا إن كان الإنسان يفعل ذلك تبرعا عن مُتَوَفَّى، فإنه يمسك؛ لأنه هو الذي تعلق به أحكام الأضحية.

وتكفي الأضحية لمن يسكنون في بيت واحد، والأضحية سنة وليست واجبة، وكذلك لو أن إنساناً سافر إلى أهله في عيد الأضحى، هل تسن له الأضحية أم يدخل في أضحية أبيه، الجواب أنها سنة في حفه، لأنه مستقل طوال السنة، ومكوثه أيام الذبح مع أبيه لا يسقطها.

والنبي -صلى الله عليه وسلم- بين أن أفضل ما يتقرب به العبد لله تعالى يوم العيد إراقة الدم، وهي تأتي يوم القيامة بقرونها وأظفارها وشعرها فتوزن للعبد، وفي حديث حسَّنه بعض أهل العلم أن للمضحي بكل شعرة حسَنة، فطيبوا بها نفسا كما قال -عليه الصلاة والسلام-.

أيها الأحبة الكرام: والحج بلا شك قربة إلى الله تعالى، ولكن خلال مؤخرا سهل وصول الناس للحج لتعبيد الطرق وتطور وسائل النقل، وبالتالي ظهرت أنظمة لضبط الناس، من ذلك أنه لا يحج الإنسان إلا بتصريح ليعرف عدد الحجاج فيتم تنظيم الأوضاع بناء هذا العدد، فهذا التصريح لمصلحة الحجاج لا لمصلحة الحكومة؛ لذا فإن أكثر أهل العلم نهوا عن الحج بغير تصريح منعا للخلل.

أسأل الله -جل وعلا- أن ينفعنا وإياكم بما سمعنا، أسأل الله تعالى أن يجعلنا ممن يستثمرون الأيام والساعات الفاضلات، وأن يجعلنا الله تعالى من المقبولين.

خطبة عن أحكام العشر الأوائل من ذي الحجة :-

الخطبة الأولى:

 

الحمدُ لله رب العالمين؛ نحمده ونستعين به ونستهديه ونستغفره، ونعوذ بالله -تعالى- من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا؛ إنه من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، اللَّهم صلِّ على سيدنا محمدٍ النبي وأزواجه أمهات المؤمنين وذريته وآل بيته، كما صليت ربنا على آل إبراهيم، إنك حميدٌ مجيد.

 

أَيُّها الأحبة في الله، أوصيكم وأوصي نفسي بتقوى الله -جلَّ وعلا-.

 

حديثي اليوم إلى حضراتكم أَيُّها الأحبة، يدور حول أحكام العشر الأوائل من ذي الحجة.

نعم أَيُّها الأحبة، فنحن على موعدٍ بعد يومين مع دخول شهر من الأشهر الحرم، ألا وهو شهر ذي الحجة، والنبي -صلى الله عليه وسلم- بيَّن لنا في حديث رواه الإمام البخاري فضل العشر الأوائل من ذي الحجة؛ فقال: «ما من أيامٍ العمل الصالح فيها أحب إلى الله -تعالى- من هذه العشرة أيام"، قالوا: يا رسول الله، ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال:
"ولا الجهاد في سبيل الله، إلا رجل خرج بنفسه وماله ثُمَّ لم يرجع من ذلك بشيء"؛ فبيَّن النبي -صلى الله عليه وسلم- في هذا الحديث ما للعشر الأوائل الأولى من ذي الحجة من فضلٍ عظيم عند الله -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-، حتى قال بعض أهل العلم: "إنها أفضل عند الله من العشر الأواخر من رمضان، في قول".

 

وبعض أهل العلم يرى أن هذه العشر هي ما أقسم الله -جلَّ وعلا- عليه في قوله: (وَالْفَجْرِ * وَلَيَالٍ عَشْرٍ)[الفجر:1-2]؛ فذهب عبد الله بن عباس ومعه طائفة من الصحابة إلى أن المراد بالليالي العشر في قوله: (وَالْفَجْرِ * وَلَيَالٍ عَشْرٍ) قال: هي العشر الأوائل من ذي الحجة.

 

من أجل هذا أَيُّها الأحبة ينبغي على كل مسلم أن يعلم أمرين:

الأمر الأول: أن نستقبل هذه العشر بتوبة إلى الله -جلَّ وعلا- من جميع الذنوب، من الصغائر ومن الكبائر، أن يتوب الإنسان إلى الله -جلَّ وعلا-، وأن يقلع عن المعصية، وأن يندم على ما اقترفته يداه، وأن يعزم ألا يعود إلى الذنوب مرةً أخرى، قبل أن يدخل العشر الأوائل من ذي الحجة.

 

الأمر الثاني: أن يعزم الإنسان بقلبه أن يستغل هذه العشرة أيام في عبادة الله -جلَّ وعلا-، وذكر الحافظ ابن حجر العسقلاني - رَحِمَهُ اللَّهُ - أن من العبادات التي تقرب الإنسان من الله -جلَّ وعلا- في العشر الأوائل من ذي الحجة من أولها الصيام، وذكر منها المحافظة على الصلوات الخمس في جماعة، وذكر منها الإكثار من ذكر الله -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-، الإكثار من قولك: لا إله إلا الله؛ لأنه وردت بعض الروايات: "ما من أيام العمل الصالح فيها أحب إلى الله فيها من هذه الأيام أو من هذه العشرة أيام، فأكثروا فيها من التهليل والتسبيح والتحميد"( أخرجه الطبراني في المعجم الكبير11116).

والتهليل: قولك "لا إله إلا الله". والتحميد: الإكثار من قول: الحمد لله. والتسبيح: الإكثار من قولك: سبحان الله، سبحان الله، سبحان الله.

 

ولذا بيَّن النبي -صلى الله عليه وسلم- في هذا الحديث ما نفعله في هذه الأيام، بل أقول، وأخبرك أخي الحبيب: إن عبد الله بن عمر كان يكثر من ذكر الله -جلَّ وعلا- في هذه الأيام العشرة؛ لدرجة أنه كان يكبِّر في السوق، فيكبِّر أهل السوق، ثُمَّ ترتج مدينة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بالتكبير في أيام العشر، وهذه سُنة.

 

الحجيج الآن يتوافدون على بلاد الحرمين الشريفين لأداء مناسك الحج والعمرة، والله -جلَّ وعلا- بيَّن لنا أن هذا الشهر العظيم من الأشهر الحرم، فله حرمة عند الله -جلَّ وعلا-، فينبغي على المسلم أن يكثر من ذكر الله -جلَّ وعلا-.

 

وأعظم الذكر: قراءة القرآن الكريم، أن تكون لك ختمة في هذه الأيام، ولقد ثبت عن بعض أمهات المؤمنين -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُن جَمِيعًا-: "أربعٌ لم يكن يدعُهن النبي -صلى الله عليه وسلم- حتى مات"؛ هكذا نص الرواية، وذكرت منها: "وصيام عشر من ذي الحجة"، هذه الرواية التي روتها أم سلمة -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا-: "أربعٌ لم يكن يدعهن النبي -صلى الله عليه وسلم- حتى مات"، وذكرت منها: "ركعتي الضحى، وصيام ثلاثة أيام من كل شهر، وصيام يوم عاشوراء"، ثُمَّ ذكرت من هذه الخصال التي لم يكن يدعها النبي -صلى الله عليه وسلم- حتى مات: "وصيام العشر من ذي الحجة"( أخرج أحمد في مسنده 26459)، وتحديدًا أَيُّها الأحبة هم تسعة أيام؛ لأن اليوم العاشر يوافق يوم عيد الأضحى وصيام يوم العيد حرام.

 

وصيام اليوم التاسع من ذي الحجة يوافق يوم عرفة، وصيام يوم عرفة سُنَّة مؤكدة عن النبي -صلى الله عليه وسلم- لغير الحاج، يعني: الحاج لا يُسنُّ له أبدًا ولا يُشرع له أن يصوم يوم عرفة، لماذا؟ لأن الحاج يقوم بأعمالٍ عظيمة، ويقوم بدعاء ووقوف بعرفة وابتهال إلى الله -جلَّ وعلا-، ويكابد مشاق السفر والتحمل والحر الشديد، ويقف في عرفات الموقف في أرض عرفات، فمن أجل هذا شرب النبي -صلى الله عليه وسلم- الماء وهو على ناقته أمام أعين الناس جميعًا يوم عرفة وهو في الحج؛ ليثبت للناس أنه ليس بصائم في أرض عرفة.

 

فإذًا صيام يوم عرفة سُنَّة لغير الحاج، يقول النبي -صلى الله عليه وسلم- في فضله: "إني لأحتسب على الله -جلَّ وعلا- أن صيام يوم عرفة يكفر ذنوب سنتين"(رواه مسلم 1162)، السنة الماضية والسنة التي أنت فيها، وله روايات كثيرة جدًّا في هذا الموضوع.

 

إذًا يوم التاسع من ذي الحجة يوافق يوم عرفة، فليحرص المسلم: أولاً: على المحافظة على الصلوات الخمس في جماعة في المسجد، وخاصة صلاة الفجر. ثانيًا: يحرص المسلم على قراءة وِرد ثابت من القرآن الكريم. ثالثاً: يحرص المسلم على أذكار الصباح والمساء، وعلى الإكثار من قولك: لا إله إلا الله، والإكثار من التسبيح وكثرة الصلاة على النبي -صلى الله عليه وسلم-. مع الإكثار من الصدقة، والإكثار من صلة الأرحام.

 

هذه أيام عظيمة على الله -جلَّ وعلا-، والأعمال فيها والأجور فيها مضاعفة، والأعمال فيها لها أجر عظيم عند الله -جلَّ وعلا-.

 

والنبي -صلى الله عليه وسلم- يقول في الحديث: "إذا دخل العشر من ذي الحجة وأراد أحدكم أن يضحي فلا يَقْرَبَنَّ من شعر جَسَده ولا من أظافره"(رواه مسلم1977)، وهذه سُنَّةٌ عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، أن من أراد أن يضحي، والأضحية كما تعلمون أَيُّها الأحبة، سُنَّة مؤكدة على القول الراجح عند أهل العلم، بينما يرى السادة الحنفية من فقهاء الأحناف، يرون أن الأضحية واجبة على كل مستطيع.

 

والنبي -صلى الله عليه وسلم- يقول في فضل الأضحية: "من آتاه الله -جلَّ وعلا- مالاً وسعةً فلم يضحِ فلا يقربن مُصلانا" (رواه ابن ماجه 3123)، يقصد: مصلى العيد، والأضحية كما تعلمون أَيُّها الأحبة، الذبيحة وأريد بها هنا الخروف يكفي عن عائلة بأكملها، يعني عائل الأسرة والزوجة والأولاد.

 

والجَمل يكفي عن سبعة، وبعض البلاد تذبح البقرة، فالبقرة تكفي أيضًا عن سبعة، إلى آخر ذلك أَيُّها الأحبة. فإذا وكَّل الإنسان مَن يذبح عنه الأضحية في أي بلدٍ منكوبة من بلاد المسلمين فهل في هذه الحالة يُمسك عن أخذ أشعاره وأظافره؟ نعم، المضحي يمسك عن الأخذ من أشعاره وأظافره، إلا ما كان له ضرورة قصوى، كأظفر انشق نصفه ويؤلم صاحبه ويضعه في حرج فإذا أزاله فلا بأس في ذلك، يعني: ما كان للضرورة فالضرورة تقدر بقدرها، كأنما رجل يتأذى من مرضٍ في رأسه فأزال شعره فلا إثمَ عليه حينئذٍ.

 

وكذلك إذا أراد رب الأسرة أن يضحي، فهو يمسك عن هذا، لكن الزوجة لا يجب عليها ولا يلزمها أن تمسك عن الأخذ من أشعارها، بل يجوز لها ولبناتها ولأبنائها وللأسرة بأكملها أن يتزينوا وأن يقصوا أظافرهم وأن يتنظفوا، فالأب فقط أو رب الأسرة فقط أو المضحي فقط الذي قام بذبح الذبيحة هو الذي يمسك فقط عن الأخذ من أشعاره ومن أظافره، أما بقية الأسرة من البنين والبنات والزوجة والأم والأب فلا يلزمهم ذلك على الإطلاق.

 

إذًا أَيُّها الأحبة، إذا وسَّع الله عليك وضحيت بهذه الأضحية العظيمة، إذا منَّ الله -جلَّ وعلا- عليك بذلك فاعلم أن الله -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- لن ينال من لحومها، من اللحوم ولا من الدماء، وإنما ينال الإخلاص والتقوى: (لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ)[الحج:37]؛ فاحذر يا أخي الكريم من الرياء، وعليك بالإخلاص لله -جلَّ وعلا- في ذبح الأضحية: (قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي) النسك المراد بها هنا الذبح، (قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ)[الأنعام:162-163].

 

ثُمَّ ثانيًا: بعد الإخلاص لله -جلَّ وعلا- عليك أن تراعي حق الفقراء فيها، وهو الثلث، فتتصدق بثلث الأضحية على الفقراء والمساكين، (فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ)[الحج:28]، فالله -جلَّ وعلا- أجاز لنا وأباح لنا أن نأكل من لحم الأضحية بمقدار الثلث، وأن نتصدق بالثلث الثاني، وأن نُهدي إلى الأصدقاء والأقارب والجيران الثلث الثالث؛ إذًا فهي تُقسَّم ثلاثة أقسام.

 

ويجوز للإنسان أن يضحي عن الميت إذا أوصى الميت قبل وفاته بذلك، يعني: كأنما رجل قال لأبنائه: إذا أنا متُّ يا أبنائي فضحوا عني كل سنة، ففي هذه الحالة الأضحية تلزم الأبناء والورثة أن يُضحوا عن أبيهم، أما ما عدا ذلك فلا يجب، يعني لا يجب على كل إنسان مات أبوه أن يضحي عنه، ولكن متى يجب؟ إذا أوصاك الأب بهذه الأضحية كل سنة فهي تلزمك إن شاء الله -جلَّ وعلا-، ولك أجرٌ كبيرٌ عند الله -جلَّ وعلا-.

 

وأقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم فاستغفروه، التائب حبيب الرحمن، والتائب من الذنب كمن لا ذنب له.

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمدُ لله ربِّ العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، اللَّهم صلِّ على سيدنا محمدٍ النبي وأزواجه أمهات المؤمنين وذريته وآل بيته، كما صليت ربَّنا على آل إبراهيم، إنك حميدٌ مجيد.

 

أَيُّها الأحبة في الله، وهناك بعض الأنواع من الشياه ومن ماشية الأنعام لا تجزئ في الأضحية، ومنها الشاة الجلحاء التي ليس لها قرنان، وكذلك الشاة العجفاء، والشاة الهزيلة الضعيفة، وكذلك العوراء البيِّن عورها، فالمسلم دائمًا ما يضحي لله -جلَّ وعلا- بما يحب: (لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ)[آل عمران:92]؛ لأن بعض الناس شعارهم: (وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ مَا يَكْرَهُونَ)[النحل:62]، الله أكبر! هؤلاء هم المنافقون؛ ينتقي أخبث الشياه ويجعلها لله -جلَّ وعلا-، أو يجعلها إحياءً للسُّنَّة، وهذا خطر كبير، (وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ مَا يَكْرَهُونَ) معاذ الله، ولكن نتذكر قول الله -جلَّ وعلا-: (لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ)؛ فالمسلم يتخيَّر من الشياه ومن بهيمة الأنعام أسمنها وأفضلها؛ لأن هذه قربى لك عند الله -جلَّ وعلا- تقربك من الله، وتأتي يوم القيامة بأظلافها وأشعارها تحجب عنك النار يوم القيامة.

 

أسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يتقبل منا جميعًا، يا رب العالمين، اللَّهم اغفر لنا جميعًا ذنوبنا، وإسرافنا في أمرنا، وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين، اللَّهم اجعل جمعنا هذا جمعًا مرحومًا، واجعل تفرقنا من بعده تفرقًا معصومًا، اللَّهم لا تجعل فينا ولا بيننا ولا حولنا شقيًّا ولا مطرودًا ولا محرومًا، اللَّهم انصر الإسلام والمسلمين في كل مكانٍ يا رب العالمين، اللَّهم احقن دماء المسلمين في كل مكانٍ يا رب العالمين.

 

اللَّهم ارفع راية الإسلام وراية التوحيد عاليةً خفاقة في مشارق الأرض ومغاربها يا رب العالمين، اللَّهم إن أردت بالناس فتنةً فاقبضنا إليك غير خزايا ولا مفتونين ولا مُبدِّلين ولا مُغَيِّرين، اللَّهم أدِمْ على هذا البلد نعمة الأمن والأمان وسائر بلاد المسلمين، اللَّهم إنا نسألك الهدى والتقى والعفاف والغنى يا رب العالمين، اللَّهم يسر الحج لمن أراد حج هذا العام يا رب العالمين، وتقبل منا جميعًا صالح أعمالنا.

 

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلِّ اللَّهم وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم، وقوموا إلى صلاتكم يرحمكم الله.

المصدر : وكالات