منذ بدء الجولة الجديدة من المصالحة الفلسطينية كَذَبَ بعض الفلسطينيين والعرب كذبة وصدّقوها، أو وقعوا ضحية خديعة متناسين أنهم من اخترعوها، أو وقعوا في الفخ. وفحوى هذه الكذبة أن الفيتو الأميركي الإسرائيلي قد رفع عن المصالحة لأسباب عديدة، أهمها التمهيد لتحقيق «صفقة القرن».
وساعد على انتشار هذه الكذبة ورواجها أو الوقوع في الفخ أن حكام واشنطن وتل أبيب التزموا الصمت في البداية. وبعد إعلان الموقف الإسرائيلي الذي يعتبر أكثر تشددًا من الموقف السابق من المصالحة، ثم تبني الإدارة الأميركية جوهر هذا الموقف الإسرائيلي، لدرجة استغراب وزارة الخارجية من صدمة المروجين لرفع الفيتو، لأن الموقف الجديد هو نفسه الموقف القديم، الأمر الذي دفع هؤلاء إلى تفسير عودة الفيتو برفض "حماس" لطرح سلاح المقاومة على طاولة الحوار الفلسطيني، وتصريحات يحيى السنوار عن انقضاء الوقت الذي تعترف فيه حركة «حماس» بإسرائيل، وعن مسح إسرائيل من الخارطة، إضافة إلى زيارة وفدها إلى إيران، وإعلان رئيسه بأن الزيارة أبلغ رد على الشروط الإسرائيلية التي شملت شرط قطع علاقات "حماس" مع طهران.
وعندما صرح الناطق باسم البيت الأبيض بأن بلاده تعتقد أن الوساطة المصرية أعطت فرصة إيجابية للسلام، لذلك فإن بلاده ستواصل دعم هذه الجهود؛ عاد الحديث عن رفع الفيتو مجددًا، فما حقيقة هذا الادعاء؟
أفاد مصدر فلسطيني مطلع بأن الرئيس الأميركي دونالد ترامب، ومبعوثيه طرحوا تقريبًا منذ البداية، وفي كل اللقاءات التي عقدوها مع الرئيس محمود عباس وغيره من المسؤولين الفلسطينيين، ضرورة عودة السلطة إلى قطاع غزة، وما يؤكد ذلك أن أول تصريح لجيسون غرينبلات عن المصالحة رحب بعودة السلطة إلى غزة لإدماجها بالجهود الرامية لتحسين الوضع الاقتصادي وعزل "حماس". وإذا عدنا للناطق باسم البيت الأبيض فقد أكد أن الهدف الرئيسي لإدارة ترامب تمكين السلطة من السيطرة على غزة، ولو بشكل جزئي فقط، وأضاف مع أن موقف الإدارة الأميركية نزع "حماس" لأسلحتها، إلا أنه من غير المتوقع أن يحدث ذلك على الفور، وأعتبر هذا الموقف تغييرًا، والحقيقة أنه تغيير في الشكل لا أكثر، لأن لا أحد يتصور أن نزع سلاح المقاومة يمكن أن يتم فورًا.
بناء على ما سبق، هناك تغيير في الموقف الأميركي الإسرائيلي، ولكنه لا يشمل رفع الفيتو عن المصالحة، فشروط اللجنة الرباعية مع تشديدها بشروط أخرى لا تزال مطروحة على أي حكومة فلسطينية قادمة، وحتى على "حماس" نفسها وفق الموقف الذي أعلنه «الكابينت» الإسرائيلي. لماذا يتم رفع الفيتو والوضع الفلسطيني والعربي يغري بتشديده ووضع شروط جديدة؟
ما تغير هو إعطاء ضوء أخضر للسلطة للعودة إلى حكم غزة لمنع انهيارها وانفجارها، وهذا ما لا يريده الجميع، والاستفادة من التعاون المصري الحمساوي المستجد خلال الأشهر الأخيرة ضد الاٍرهاب في سيناء، وتوظيف ضائقة "حماس" وإشارات الاعتدال التي أرسلتها -يرجع الاعتدال إلى أسباب عدة لا مجال للخوض فيها كلها في هذا المقال، منها تداعيات الأزمة الخليجية، وانشغال حليفيها في الدوحة وأنقرة فيها- لعل وعسى تفتح هذه الضائقة نافذة لقبول "حماس" بشروط اعتمادها، أو تُسهّل احتواءها، أو عزلها.
كما أن أوساطًا أميركية سياسية وأمنية وإعلامية تعتقد أن مصير هذه الجولة من المصالحة لن يختلف عن سابقاته، لذا أوصوا بترك الفلسطينيين يُفشلون مصالحتهم بأنفسهم من دون تدخل مباشر من أحد -انظر مقال عاموس يدلين بهذا الشأن ومقال ديفيد ماكوفسكي-، لذلك رفض نتنياهو قبول مطالب شريكه في الائتلاف الحاكم نفتالي بينت بمعاقبة السلطة لإجبارها على عدم المصالحة مع "حماس"، مؤكدًا في الوقت نفسه أنه يرفض المصالحة ولن يفاوض السلطة إذا دخلت "حماس" في الحكومة.
إذًا، لا تغيير أميركيًا من مسألة مشاركة "حماس" في الحكومة أو المنظمة ما لم توافق على شروط اللجنة الرباعية.
ما سبق يمكن تفسيره بأن واشنطن وتل أبيب لا تريدان إسقاط "حماس" كليًا الآن، لأن الانقسام يوفر فرصة ذهبية لهما ولا بديل عنها الآن، لا سيما في ظل غياب السلطة لأكثر من عشر سنوات وخلافات "فتح" وصراعاتها، فالبديل عنها حاليًا الفوضى وسيطرة قوى متطرفة وإرهابية. وهما لا تريدان شن حرب جديدة على القطاع، خصوصًا أن نتيجتها غير مضمونة في وقت الأولوية لديهما لما يجري ويمكن أن يجري على الجبهة اللبنانية السورية العراقية الإيرانية، التي شهدت مؤخرًا تسخينًا ملحوظًا، إذ ليس من المفضل خوض حرب على الجبهتين الشمالية والجنوبية في وقت يمكن فيه تحقيق إنجازات على الجبهة الجنوبية من دون حرب في المدى المباشر.
ما ترفضه إدارة ترامب وحكومة نتنياهو حصول شراكة بين "حماس" و"فتح" وبقية الفصائل على أساس وطني. أما عودة السلطة إلى غزة فقد تكون من أفضل الحلول المتاحة، فإذا نجحت من خلال تمكن السلطة ولو عبر بقاء الازدواجية بين سلاحها وسلاح المقاومة، فيمكن الانتقال في مرحلة لاحقة لمسألة نزع سلاح المقاومة كما كتب موشيه آرنس، وزير الحرب الإسرائيلي الأسبق، وإذا لم تنجح الجولة الحالية وانهارت، فالفلسطينيون يتحملون المسؤولية وحدهم أو معهم إسرائيل وأميركا.
أكدنا ونعيد التأكيد أن المصالحة الحقيقية هي التي تحقق الشراكة الوطنية، ولا تكون جسرًا لاستئناف المفاوضات وفق الشروط الإسرائيلية، أو غطاء لما يسمى "صفقة القرن". وهذه المصالحة لا يمكن تحقيقها إلا من خلال بلورة رؤية شاملة في إطار حوار وطني يشارك فيه مختلف أطياف الشعب الفلسطيني، يهدف إلى تحديد أين يقف الشعب الفلسطيني الآن، وإلى أين يريد أن يصل، وكيف يحقق ما يريد؟، ويوفر متطلبات الوحدة، وأبرزها ما يأتي:
- الاتفاق على برنامج وطني يستند إلى ميثاق وطني بعد إعادة صياغة الميثاق القديم في ضوء الخبرات والحقائق الجديدة، ودون المس بالرواية والحقوق التاريخية، على أن يختلف بالضرورة عن البرامج المعتمدة التي وصلت إلى طريق مسدود. برنامج يجسد القواسم المشتركة، بما يحفظ الحقوق والمصالح الوطنية، وبما يمكن من الفعل على كل المستويات والمحافل العربية والإقليمية والدولية، وبما يجنب العزلة والمقاطعة الدولية من خلال الاستناد إلى القانون الدولي وقرارات الأمم المتحدة من دون قبول شروط اللجنة الرباعية الظالمة.
- إعادة بناء مؤسسات منظمة التحرير من خلال عقد مجلس وطني توحيدي يضم مختلف ألوان الطيف السياسي التي تؤمن بالشراكة على أسس وطنية وديمقراطية توافقية وشراكة وطنية كاملة.
- تشكيل حكومة وحدة وطنية بمشاركة الأقطاب السياسية، حتى تكون قوية وقادرة على الحكم، وتوحيد مؤسسات السلطة، وإنهاء مظاهر الانقسام وتجلياته عَلى أساس إعادة النظر في وضع السلطة، ونقلها من سلطة الحكم الذاتي إلى سلطة تكون جنين تجسيد الدولة والاستقلال والسيادة لتخدم البرنامج الوطني، وتكون أداة من أدوات المنظمة، على أساس أخذ الظروف الخاصة لكل من الضفة والقطاع بالحسبان، وبما يتضمن أن قرار الحرب والسلم قرار وطني، وأن سلاح المقاومة لا بد من الاتفاق على تنظيمه وإدارته بصورة مشتركة من دون التخلي عنه قبل تحقيق الحقوق الوطنية، ففلسطين بحاجة أكبر من لبنان إلى المقاومة لأنها محتلة ولا يمكن تحريرها أو إنجاز تسوية تحقق الحد الأدنى من الحقوق الفلسطينية من دون تغيير موازين القوى، وبما يتضمن كذلك أن المفاوضات يجب أن لا تستأنف ما لم تلتزم بمتطلبات تكفل أن تكون في مصلحة الشعب والقضية، وليس مرحلة جديدة على طريق تطبيق هدف إقامة "إسرائيل الكبرى".
- الاحتكام إلى الشعب عبر إجراء الانتخابات التي تكون أداة من أدوات صراع الشعب الفلسطيني ضد الاحتلال، وإذا جرت من دون توحيد المؤسسات وقبل إنجاز الوحدة فستكون في أحسن الأحوال قفزة في المجهول.
من دون برنامج وطني مشترك ولا منظمة تحرير واحدة تمثل الشعب الفلسطيني أينما تواجد، وسلطة واحدة، وقيادة واحدة، لا توجد وحدة وطنية، وإنما مصالحة شكلية تكتيكية سرعان ما تنهار أو تصل إلى ما هو أسوأ، وهو توحيد القوى القائمة تحت سقف أوسلو، أو سقف منخفض آخر، في حين أن المصلحة الوطنية الملحة تقتضي تجاوزه كليًا، إن لم يكن ممكنًا مرة واحدة فبالتدريج.