سأخرج عن المألوف في كتابة المقال، فالسياسة التي نكتبها فقدت لونها وطعمها ورائحتها وسط حالة توهان وعربدة، ولم يعد لقيمها أية قيمة، بل وأصبحت في عصر الرأسمالية والسوشيال ميديا والانحطاط العربي عصيةً على التفسير والتفكير والتدبير، أعان الله السياسيين على هذا الزمن الطافح بالذل والحاجة وبالانتقادات المعلنة والعنيفة والشتائم.
ليس بالضرورة دوماً أن نكتب عن القادة العظام الذين يرحلون عندما يفجعنا خبرهم، بل نحن من لحم ودم لنكتب عن أصدقائنا الذين يملؤون فجأة جرار حزننا حين يغادرون، بعد أن كانوا يملؤون القلب روحاً وحياة. هؤلاء أيضاً أبطال ولهم ذكريات، ولنا ذاكرة انغلقت عند آخر صورة في ألبوم اللقاء الأخير، وخاصة حين يكون للوطن نصيب من الموت يزداد الألم تعلقاً بمن تبقى.
وليسمح لي رئيس التحرير هذه المرة أن أكتب بشكل شخصي، وأن أسكب جزءاً من الحزن على من يسقطون تباعاً هماً وحزناً وفقراً، محمد داوود ذلك الشاب الصحافي الذي رحل باحثاً عن لقمة عيش لم يعد يجدها في الوطن ليموت هناك في اسطنبول بعيداً عن أهله ووطنه، والصديق فارس الأخرس الذي مات هماً وحزناً حين سحقته الحياة وظل يلاحقها لأكثر من خمسة عقود، وهو من أهم كوادر حركة فتح العمالية الفاعلة، ومات فقيراً تاركاً عائلة كبيرة.
محمد داوود الشاب الذي تشي ملامح وجهه بأدبه العالي، كان يستقبلني دوماً بابتسامة نادرة حين عمل في تلفزيون النجاح لفترة لم تكن تكفيه لأجرة مواصلاته، وعمل بإذاعة صوت الشعب في قطاع غزة، عرفت لاحقاً أن كل طموحه كان أن يحصل على راتب 800 شيكل ليستقر، ولكنها باتت عزيزة في وطن تتصارع فيلته، فآثر محمد الرحيل من هذا الوطن الذي سحق أبناءه باحثاً عن حياة وعمل، ولكنه مات بسكتة قلبية وهو في عشرينات عمره لم يبدأ الحياة بعد. مات محمد هماً وكمداً وغيظاً وترك كل المسؤولين أمام حساب ضمير أغلب الظن أن أحداً لن يشعر بوخزته وسط نشوة الحكم.
فارس الأخرس هو ذلك الصديق الفتحاوي العتيق الذي يسكن شارعنا منذ زمن في منتصف ثمانينات القرن الماضي. كان المسرح ينتصب وسط ذلك النهار تجهيزاً لحفلة عرس قيل لنا ونحن في بداية الفتوة ولم نكن قد تعرفنا على العمل الوطني بعد، قيل إنها ستكون فرقة وطنية  ستأتي من الضفة الغربية، كان فارس يصر على أن يكون الفرح وطنياً، غنى لـ «فتح» حين كان الاحتلال، كان الناس في ذلك الزمن يعملون في اسرائيل ولا يعرفون شيئاً عن القضية والحرية، وكانت الفرق الفنية التي نعرفها في ذلك الزمن شيئاً يشبه شفيق كبها وغيره، لكن الوطنية التي نمت مع ذلك الرجل كانت تختلف، ولا أبالغ إن قلت إن أهل الحي تعلقوا بـ «فتح» من خلاله.
جاءت السلطة، وظل الرجل الذي يعمل في العمل النقابي العمالي للحركة في مكانه وليحصل على درجة رئيس قسم، وهي درجة لا تسمن ولا تغني من جوع وبعائلة كبيرة. كنت أرى كيف ينفد راتبُه الصغير منتصف الشهر ويُمضي بقية الشهر كسيراً حزيناً، وعاش عمره على القروض والمساعدات.
كان فارس الأخرس أكثرنا طيبةً وصاحب النكتة الطبيعية التي تخرج تلقائياً، يستطيع تحويل أي حوار الى حالة من السخرية الجميلة، كان تحفتنا ووردتنا ودرة لقاءاتنا وكاسر حزننا بينما هو الأكثر حزناً بيننا، حين كنت أدعوه للعشاء كان يرد ساخراً: أكلت للتو «كبافل»، يقصد فلافل بلغة الكباب الذي كان عزيزاً على أمثاله، كيف كان يجيد تحويل المأساة الى فرح، تلك كانت سمة نادرة جعلنا نتلهف دوماً للقائه الى الدرجة التي نقطع عليها حياته الاجتماعية. كان أروعنا وسط الحزن المخيم على المخيم.
كان أكثرَنا وطنيةً وانتماء وأكثرنا حزناً وفقراً، كانت كل أبواب الأمل تنغلق أمامه، فلم يحصل على ترقية براتب يكمل فيها شهره الحزين الذي يشبه كل الشهور بالنسبة له. وحين سيطرت حركة حماس على غزة أدرك أن لا أمل تماماً، لكن خنجر الحزن الذي قضى عليه عندما أصبحت السلطة تصرف نصف الراتب لموظفي غزة، واذ به وهو الفتحاوي القديم والقائد العمالي يصطف مع أكثر المتسولين وأكثر الغاضبين وأكثر البائسين، ومن هنا كنا نستغرب كيف يستمر بالحياة، لكنه فقد ابتسامته التي كنا نعرفها وأصبح دائماً خارج الحي يذهب ليفرغ حزنه مع أصدقائه القدامى ويعود متأخراً للنوم، وحين نصادفه نقرأ في ملامحه تراجيديا الفلسطيني الذي ظلمته الحياة وداسته بأقدامها، وكيف ظلمته السياسة وقضى عليه الساسة الذين ينعمون بحياة كريمة، في حين يسقط الناس أكثر في وحل الأوجاع والآلام.
فارس الأخرس نموذج لمأساتنا القديمة والجديدة، ومحمد داوود نموذج لمأساة الشباب الذي بات يهرب باحثاً عن ملاذ في الغربة، كلاهما نموذج لهذا الوطن الذي يضيق أكثر ويخنق أبناءه ولا يبقي لهم مجالاً سوى الرحيل أو الموت أو كليهما معاً، ويترك لنا نحن الأحياء إن بقينا مكللين بالإحباط والحزن. محمد في عشرينات عمره، وفارس في بداية الخمسينات، فالأسرة لم تنضج بعد، ولم يكمل رحلته بعد، لم يُنهِ مسؤولياته، وراتب المعاش الذي كان يهرب سريعاً منه مع بدايات شهره لن يعيل العائلة، وأغلب الظن أن لا أحد سينتبه له مثل الكثيرين، وتلك واحدة من مآسينا. فلروحهما السلام، ولنا الحزن والقهر على الفقد، والحزن أكثر على وطن يأكل أبناءه...!!!