قضيت في غزة خمسة أيام مثيرة وغنية بالمشاعر والأفكار والمعلومات، عقدت فيها عشرات اللقاءات مع كتاب وأكاديميين وممثلي مختلف الفصائل والحكومة والمجتمع المدني والغرفة التجارية وأصدقاء من أيام الزمن الجميل. وتحدثت في اجتماعات وورش عمل ولقاءات في جمعية المرأة المبدعة، ومركز حيدر عبد الشافي، وفلسطينيات، وجريدة الرسالة، ووطنيون لإنهاء الانقسام، وشبكة المنظمات الأهلية، إضافة إلى ورشات في مقر مركز مسارات، حيث حضرت مؤتمر مائدة السلام النسوية السنوي، وورشة مهمة مع الشباب.
كان القاسم المشترك الأعظم لكل هذه النشاطات المصالحة وآفاقها، وكيف يمكن ضمان نجاحها هذه المرة، خصوصًا بعد انخفاض سقف التوقعات بعد التباطؤ في تنفيذ خطوات المصالحة، كما يظهر في عدم إلغاء الإجراءات العقابية، أو حتى بعضها وربطها في تحقق تمكين الحكومة الذي لا أحد يعرف متى يتحقق، وما هي المعايير والشروط والسقف الزمني؟ فالمسألة غامضة، وأمرها في يد شخص واحد، هو الذي اتخذ الإجراءات، وهو وحده الذي سيقرر متى سيوقفها، وهل سيشمل ذلك كل الإجراءات أو بعضها.
في قطاع غزة لا يتسامحون مع أعداء المصالحة، ولا حتى مع المتشائمين من نجاحها، لأنها قضية حياة أو موت لشعبنا في القطاع، وفشلها هذه المرة يعني القفز نحو المجهول، وربما نحو الانهيار والفوضى والانفجار. فالقطاع أشبه الآن بالبيت الذي نشبت فيه النيران، واهتمام كل من فيه هو إطفاؤها الآن وقبل أي شيء آخر. يمكن أن يتأخر حتى الاهتمام بتحرير فلسطين والعودة وحقوق الإنسان وتمكين المرأة ... إلخ، لأن الأولوية لإطفاء الحريق قبل أن تأكل النار البيت بما فيه.
في ضوء كل ما سبق، اخترت أن أتناول في هذا المقال موضوعاً يتعلق أساسًا بالمساهمة في توفير عوامل نجاح المصالحة، والسعي لتحويلها إلى وحدة وطنية تعددية تشاركية شاملة.
لاحظت من خلال معظم اللقاءات أن هناك شبه إجماع على ضرورة توفير حاضنة وطنية شعبية للمصالحة، ظهرت مدى الحاجة إليها بعد أن جرت محاولة اغتيال اللواء توفيق أبو نعيم، التي أشعلت كل الأضواء الحمراء، وبعد أن كشّرت الحكومة الإسرائيلية عن أنيابها، وقدمت شروطًا شديدة لكي تعترف وتتعامل وتتفاوض مع أي حكومة فلسطينية جديدة، وبعد أن أكدت الإدارة الأميركية على تمسكها بشروط الرباعية، وأن المطلوب عودة السلطة إلى قطاع غزة، أما مسألة مشاركة "حماس" فهي مرهونة باعترافها بإسرائيل ونزع سلاح المقاومة.
كيف يمكن تمكين الحكومة إذا لم تمثل الكل الوطني وتكون حكومة وحدة وطنية قوية قادرة على تحمل المسؤوليات الجسيمة بعيدًا عن الولاء لفصيل أو فرد أو مراكز القوى، أو أضعف الإيمان تكون حكومة وفاق وطني حقيقي تمثل الجميع؟
كيف يمكن أن تتوفر الحاضنة الشعبية للمصالحة؟ هل يمكن تحقيق ذلك من خلال الاكتفاء بترديد هتاف الشعب يريد إنهاء الانقسام والمناشدة بتحقيق هذا الهدف؟
لا أعتقد أن ذلك يكفي. فما ميز معظم التحركات والجهود الرامية لإنجاز الوحدة بمشاركة عدد من القوى والحراكات الشبابية والأفراد والمؤسسات أنها جربت الاكتفاء بالدعوة لإنهاء الانقسام، وبعضها دعا ونظم تحركات ومظاهرات هتفت بإنهاء الانقسام، شارك فيها أقطاب من "طرفي الانقسام"، وها هي التجربة الحالية لإنجاز المصالحة تركز على إنهاء الانقسام من خلال التركيز على تمكين الحكومة القائمة أولًا من دون تشكيل حكومة جديدة متفق عليها، ولا حتى تعديلها وفق أسس ومرجعيات وطنية متفق عليها.
إن من الخطأ التعامل على قاعدة غالب ومغلوب، وأن تبقى الحكومة كما هي، لأن هذا جعل الكثيرين يشعرون أكثر وأكثر بأن هذا الطريق غير قادر على إنهاء الانقسام فعلًا، بل يمكن أن يدير الانقسام ويصل إلى نوع من الاقتسام، أو ينشأ وضع سيعيدنا إلى ما كنّا عليه، وهو ما أدى إلى حصول الانقسام.
هناك اجتهاد آخر عبّر عن نفسه بأشكال عدة، منها مثلًا "وثيقة الوحدة الوطنية" التي انبثقت عن مؤتمر نظمه مركز مسارات في آب 2016، وأهم ما يميزها أنها وضعت المساعي لإنهاء الانقسام في سياق العمل لإحياء القضية الفلسطينية بوصفها قضية تحرر وطني، تأخذ مهمات البناء الديمقراطي المحدودة بالحسبان الناجمة عن تأسيس سلطة حكم ذاتي تحت الاحتلال، أي أن يتزامن السعي لإنهاء الانقسام ويأتي في سياق إعادة بناء الحركة الوطنية ومؤسسات السلطة ومنظمة التحرير والتمثيل، على أساس البرنامج الوطني، على أن تضم مختلف ألوان الطيف السياسي والاجتماعي التي تؤمن بالمشاركة على أسس وطنية وديمقراطية توافقية ومشاركة حقيقية كاملة.
لا يمكن أن تتجسد الوحدة الوطنية من دون بلورة رؤية شاملة بعد وصول الاستراتيجيات المعتمدة إلى طريق مسدود، ما يقتضي مراجعة التجارب السابقة، واستخلاص الدروس والعبر، وإعادة صياغة وتعريف البرنامج الوطني الذي يجسد القواسم المشتركة بعد الهبوط بسقفه منذ ما قبل وما بعد توقيع اتفاق أوسلو وحتى الآن، وفي ظل وصول استراتيجية المقاومة المسلحة الأحادية إلى هدنة مفتوحة مع الاحتلال، وجعل المقاومة تبدو أكثر من أي شيء آخر أداة لحماية السلطة وليست استراتيجية للتحرير والعودة.
من الصعب، بل من المستحيل، أن تتحقق المصالحة الحقيقية من دون برنامج وطني يرشد الحركة السياسية والنضالية، ويلزم بأن قرار السلم والحرب قرار وطني مشترك لا يقرر بشأنه فرد أو فصيل أو فصيلين أو كل الفصائل، بمعزل عن مؤسسات شرعية منتخبة بانتخابات حرة ونزيهة تجري في إطار من الوحدة، وإذا تعذر إجراؤها تشكل من خلال التوافق الوطني، على أساس معايير موضوعية يتفق عليها، الذي سيكون مصدرًا للشرعية إلى حين إجراء الانتخابات. برنامج يحدد خطة العمل إزاء كيفية التعامل مع التحديات والمخاطر والفرص، ويحدد كيفية التصدي لسعي إسرائيل لإقامة "إسرائيل الكبرى" بعد أن تجاوزت الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة أوسلو من جانب واحد، ومع إصرارها على استمرار الجانب الفلسطيني بالتمسك بالتزاماته، ومع المساعي المبذولة لاستئناف العملية السياسية ومحاولة التوصل إلى "صفقة القرن"، أو إلى حلول انتقالية جديدة يراد لها التغطية على الحل الإقليمي والسلام الاقتصادي.
هناك فرق هائل بين أن تكون المصالحة غطاء لعملية سياسية لا تلتزم حتى بالحد الأدنى من الحقوق الوطنية الفلسطينية، بل تهدف إلى تصفيتها، وبين أن تكون مدخلًا لاصطفاف فلسطيني جديد يفتح الطريق لموقف عربي يحتضن الإجماع الفلسطيني، ويقطع الطريق على محاولة تطبيع العلاقات العربية الإسرائيلية في سياق بلورة حلف أميركي عربي إسرائيلي لمواجهة "الخطر الإيراني"، ليتحول العدو الإسرائيلي بقدرة قادر من عدو إلى صديق وحليف!
يمكن توفير الحاضنة الشعبية من خلال عقد مؤتمر شعبي يشارك فيه مختلف القوى والمؤسسات والأفراد، التي تهدف إلى إنجاز وحدة وطنية حقيقية، ينتج عنه وثيقة تحدد متطلبات إنجاز وحدة وطنية حقيقية، وتشمل الحفاظ على الحقوق الوطنية وأشكال العمل والنضال لتحقيقها، وتضمن حقوق الإنسان وحرياته، ومشاركة المرأة والشباب، وقيم الحرية والعدالة والمساواة والتعددية، على أن تنتخب لجنة متابعة أو لجان عدة تعمل على إقناع مختلف الأطراف بتطبيق ما تتضمنه الوثيقة، وعلى أن تطالب بالمشاركة في اجتماعات المصالحة، وإذا تعذر ذلك تواكبها عن قرب، وتسعى لتذليل العقبات والرقابة، واستخدام الضغط السياسي والشعبي المتواصل والمتراكم، وتحميل المسؤولية للطرف أو الأطراف المعطلة، ومواجهة المحاولات الرامية إلى إفشال المصالحة إذا لم تكن على مقاس الشروط والإملاءات الأميركية الإسرائيلية.